مُناجاة
بقلم: مصطفى نصر
جاءته مكالمة من مدير مكتبه؛ مصطفى عكرت صفوة، وهو في زيارة عمل للدار البيضاء لعقد صفقة جديدة؛ علها تغير الحال شبه المتوقف في نمو أعماله..
قال له مدير مكتبه:
– عندي خبر سيء، أخشى يا سيد وليد، أن يصيبك بالحزن؛ البنك حجز على أصول شركتنا لتأخرنا عن سداد ثلاثة أقساط من القرض!
ضيق شديد
وعد وليد مدير مكتبه بأنه سيتصرف، وستصبح كل مشاكله شيئا من الماضي؛ بعد هذه الصفقة التجارية الكبيرة مع صديقه، رجل الأعمال المغربي الذي هو في ضيافته الآن بالدار البيضاء.
لكنه في قرارة نفسه، قد أصابه ضيق شديد وهو يرى أعماله تتهاوى أمامه، وهو عاجز عن فعل أي شيء.
المغامرة
إنه يكره الاستعانة بأصدقائه _وهم كثر_ لإنقاذه، رغم ثقته الكبيرة بأنه سيجدهم عند الطلب، لسالف أياديه البيضاء عليهم عند الشدائد، لكن كبرياءه كان يصور له أنه ليس الشخص الذي يستسلم بسهولة للصعاب والعوائق؛ فيضيع على نفسه لذة المغامرة لحل مشاكله بنفسه.
طلب من مدير مكتبه أن يرسل له رقم هاتف مدير البنك للتفاهم معه، اتصل بالرقم، فجاءه صوت مدير البنك؛ الدكتور محسن محجوب، ذلك الخمسيني المتأنق دوما، الذي اختاره البنك لخبراته الواسعة كأستاذ للعلوم المصرفية، على الجانب الآخر كأنه كان في انتظاره!
أصول الشركة
بعد تحية موجزة دخل معه إلى صلب الموضوع، ذكره بأن الحجز على أصول الشركة؛ لن يخدم هذه الصفقة التي هو بصددها بالمغرب، والتي يعول عليها كثيرا في سداد كامل القرض، وتحسين الموقف المالي للشركة، بعد الكساد الكبير الذي أصاب سائر رجال الأعمال في العالم؛ بسبب إغلاقات جائحة كوفيد 19 اللعينة.
الإستثمار
بعد أن عول على أن هذه المرافعة البارعة ستساعده دون شك في إقناع د. محسن، جاءه الرد من الجانب الآخر بلا أمل في إلغاء القرار، لأن التوجيه بالتجميد حسب المدير صادر من هيئة رقابة الاستثمار بالبنك المركزي، وأن البنك لا يستطيع فك التجميد إلا بأمر صادر من هذه الجهة.
شكر د. محسن على كل حال، ومارس على نفسه درجة كبيرة من ضبط النفس؛ حتى لا ينفجر في وجه المدير.
الأحمال الزائدة
سئم في تلك اللحظة من كل شيء، فألقى بهاتفه في درج “الكومودينو الصغير” المجاور لسريره في الفندق، وأغلق عليه بالمفتاح، ودلف من غرفة فندقه إلى الشارع العام؛ عله يتخفف من هذه الأحمال الزائدة بجولة حرة بلا هدف في شوارع الدار البيضاء، بعد أن تحرر من كل وسائل الاتصال؛ بإغلاق اللابتوب أيضا والتحرر تماما لهذه الجولة.
فصل الشتاء
بعد الغروب، في أول الليل، وفي هذه الليلة في بداية فصل الشتاء، وجد نفسه يسير في شارع الملك محمد الخامس، وهو شارع عريض وحيوي يضم العديد من المحلات التجارية، والمطاعم والمقاهي، كان منبهرا بالحركة والنشاط التي تملأ الشارع، وكذلك بالتنوع الثقافي والفني الذي يظهر في المباني والإعلانات والزخارف.
كان يمر ببصره على محلات تبيع الملابس التقليدية والحديثة، وأخرى تعرض التحف والصناعات اليدوية، وثالثة تقدم الكتب والصحف والمجلات.
أشهى المأكولات
هناك مطاعم تقدم أشهى المأكولات المغربية، مثل الكسكسي والطاجين والحريرة، وأخرى تقدم أطباق دولية، مثل البيتزا والبيرغر والسوشي، ورأى مقاهي تزخر بالزبائن؛ الذين يستمتعون بشرب الشاي أو القهوة أو العصائر، بعضهم على أنغام الموسيقى، وبعضهم يشاهد قنوات التلفزيون وآخرون مشغولون بالمحادثات، وبجواره فنادق فخمة، وصالات عرض وساحات عامة.
على الشوارع تنتشر عدد من الحدائق العامة، المزودة بأعمدة ومعدات لممارسة الرياضة في الهواء الطلق، كان مجموعة من الشباب يتجمعون في حلقة صغيرة، فيما يتناوبون على رفع الأثقال من خلال عمود حديدي تتدلى في جانبيه أثقال حديدية، يعدلون وزنها بحسب الحال.
رشاقة
لاحظ أن معظم الشباب المغربي في الشارع يتمتعون بأجسام رياضية، بينما يغلب على الشابات قوام يميل للامتلاء قليلا، ولكن فيه رشاقة مغربية محببة، كانت الشابات المحجبات والسافرات يسرن جنبا إلى جنب في منظر يذكر الزائر بروح التسامح التي تغلب على المجتمع المغربي.
مُناجاة
في تلك اللحظات وصل في آخر الطريق بعد ما يقرب من ساعة من المشي إلى مبنى شغل تفكيره وتسمر أمامه؛ كان المبنى هو مسجد الحسن الثاني، يقف شامخا بأبراجه الفخمة وقبته الضخمة، وقف وليد مبهورا بحجمه وروعته، وكان المسجد يتألق بأضواء زرقاء تزيده بهاءً، كان المسجد يستقبل الزوار من كل الأديان والجنسيات، ويعرض لهم تاريخه وفنه وعمارته.
تحفة معمارية
كان صاحبنا متلهفا لدخول المسجد والصلاة فيه، فسارع بخطاه ودخل إلى الحرم الشريف، ثم خلع حذاءه ووضعه في خزانة خاصة.
المسجد تحفة معمارية تطل على المحيط، ويضم مئذنة عالية ترتفع 210 أمتار فوق سطح البحر، وتضيء بشعاع ليزر يشير إلى اتجاه مكة المكرمة.
بني المسجد على نتوء صخري يطل على المحيط الأطلسي، ويحتوي على أرضية زجاجية؛ تسمح للمصلين برؤية المحيط من تحتها، كما يتميز المسجد بسقف قابل للفتح، يفتح في أيام الصيف للتهوية، وللمسجد مكتبة ومتحف ومدرسة داخل حرمه.
الإسلام
دخل إلى قاعة المسجد التي تجمع بين الفن الإسلامي والمغربي والأندلسي، حتى انتهى إلى قاعة الصلاة الفسيحة التي تتسع لـ 25,000 مصلٍّ، كما تزينت القبة الرئيسية بالجبس المنقوش والملون بألوان زاهية، وتعلو القبة نجمة ثمانية الأضلاع ترمز إلى الإسلام.
وقف مذهولا أمام جدران وأعمدة المسجد المزخرفة بالزليج والرخام، والخشب المنحوت بأشكال هندسية ونباتية، وكتابات قرآنية.
وزن الريشة
في ركن في قاعة المسجد وقف وشرع في الصلاة، في البداية صلى وليد ركعتي تحية المسجد، ثم تذكر أنه لم يصل المغرب، فصلى المغرب ثم استغرق في صلوات لا يعرف عددها، إلى أن ختمها بصلاة العشاء في جماعة، ومن بعدها استغرق وليد في الصلاة؛ كأن الزمان قد توقف بانتظاره حتى يفرغ من صلاته.
شعر بأن حملا كبيرا انزاح من صدره، وأنه أصبح بوزن الريشة؛ بعد أن ناجى ربه، ووضع حموله عليه في الأزمة التي يمر بها.
ورطة كبيرة
لم يكن يدرك أن هناك مفاجأة تنتظر عودته للفندق، ستزيح من صدره كل الهموم؛ إذ أنه ما أن فتح هاتفه، حتى وجد ما يقرب من خمسة اتصالات؛ من صديقه السعودي القديم “يحيى الشهري” الذي أنقذه من ورطة كبيرة في أعماله بدبي ذات مرة، فأصبحت بينهما علاقة مودة وتواصل دائمين.
رن على صديقه، فوجده في انتظاره على أحر من الجمر، أخبره بأنه اتصل بهاتفه لمدة ثلاثة أيام فلما وجده مغلقا، اتصل بمدير مكتبه، وعلم منه أنه بالمغرب، طالبا منه أن يلبي له طلبا يتعلق بعرض لديه من أحد العملاء؛ يريد فيلا إجازات بالمغرب، وأن الصدف السعيدة أوصلته إليه، وأنه بالفعل بالمغرب!
الصفقة
بشره وليد بأن طلبه مجاب، وأن كل ما عليه هو أن يرسل له مواصفات الفيلا المطلوبة على البريد الإلكتروني، لكنه صارحه بأنه يعاني من أزمة مالية طارئة ومشكلة مع المصرف بالسودان، ستعطل المهمة قليلًا لأن حسابه مجمد.
قال له يحيى:
– لا تهتم مطلقا بهذه المشكلة البسيطة، كل ما عليك هو أن ترسل لي هاتف مدير البنك، وسنعالج معه المشكلة غدا؛ بتسديد الأقساط بجزء من عمولتك في هذه الصفقة.
مُناجاة
مُناجاة بقلم: مصطفى نصر
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
مُناجاة مُناجاة مُناجاة مُناجاة مُناجاة