النداهة بقلم: الزهراء محمد ريمونارف الأدبية ريمونارف

النداهة

النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد ريمونارف الأدبية ريمونارف
النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد
النداهة

بقلم: الزهراء محمد سعيد

 

لا أعلم لماذا أعشق ذلك المكان بالتحديد؟!

كلما مررت أمام تلك الشجرة أنجذب إليها بشدة، لعلها تستمد سحرها من ذلك الوجه المحفور على جذعها، وتلك الكلمات التي تزينها:

“نثرت بذور الحب، فحصدت أشواك الألم، يا نايي الحزين، ما بالك فقدت النغم؟!

هل هزمك الحنين، أم آهات الندم؟!”

أعشق الليل بقريتي؛ هنا يمكنني رؤية النجوم لامعة، والصمت المطبق يبرز خرير ماء الترعة المارة بجوار شجرة الصفصاف، ونقيق الضفادع، ورائحة الزرع، وحفيف الأغصان، كلما داعبها النسيم، تختلط الأصوات لتنتج سيمفونية فريدة، لأنها من صنع الخالق.

أتحسس صورتها المحفورة، وأغمض عيني، ما زلت أتذكرها؛ وفاء، فاتنة قريتنا التي ذاع صيت جمالها بين القرى والبلدان المجاورة، حتى تغنى بجمالها مطربو الموالد، ونظم المعجبون لها الشعر.

كنت مراهقا حين لاحظتها، وداومت على مراقبة رحلتها الصباحية إلى مدرستها في إحدى البلدان المجاورة، لأن قريتنا صغيرة جدا، ولا يوجد بها مدارس.

أتعمد التلكؤ

أتعمد التلكؤ وأنا في طريقي لمدرستي حتى لا أسبقها، كانت ملفتة لدرجة إذا مرت بجمع اشرأبت لها الأعناق؛ رغما عن أصحابها، وحدقت بها العيون بلا حياء.

تحسدها النساء، ويرغبها الرجال والشباب، وحتى العواجيز، وهي تكتفي برسم ابتسامة على ثغرها الدقيق، بشفتين بلون الكرز، لتظهر جزء من أسنانها المتراصة كلآلئ ناصعة البياض داخل صدفتها، وعينان اختلط فيهما لون البحر بلون السماء، تغرق داخلهما ولا تعلم كيف النجاة!

جبهة عريضة، بشرة ناصعة البياض، وطابع الحسن يزين ذقنها، وبعض خصلاتها البنية تفر من تحت حجابها، تلامس وجنتيها الورديتين، ممشوقة القوام؛ كانت بالفعل كغزال الريم.

رحلتها الصباحية كانت الوقت المفضل لكل الشباب، كل منهم يتصارع ليلفت انتباهها، تمني الجميع بابتسامة ونظرة، لكن لا تقترب.

والدها فلاح بسيط أرّقه خوفه على مهرته الجامحة، يخشى عليها الطرقات، وعيون المتربصين، لكن ما كان يقلق والدتها معرفتها بحقيقة ابنتها اللعوب؛ فهي تمني العديد من الرجال في البلدة التي تتلقى بها تعليمها.

الحقائق

كم جاهدت لتخفي ذلك الأمر عن والدها!

وحاولت إصلاحها بالنصح تارة، وبالترهيب تارة أخرى، لكن لا بد من يوم تتجلى فيه الحقائق، ولن يتوانى والدها عن قتلها.

كانت والدتي وصديقاتها يزمون شفاههن، ويطرقعون بالكلام كلما مرت بهن:

– يا لها من متبجحة؛ لا تحترم عرفا ولا أخلاقا، ملابسها تكاد تتمزق فوق خصرها، تريد بذلك إبراز مفاتنها لتغري أبناءنا..

وفي إحدى جلساتهن، مصمصت والدتي شفتيها قائلة:

– أخشى على عبد الله منها؛ لاحظت مراقبته لها في طريقه لمدرسته، لكني لم أخبره.

شعرت بحرارة منبعثة من أذني ووجهي؛ خجلا مما شاهدته والدتي، توخيت الحذر، وتوقفت عن تتبعها منذ تلك اللحظة، لكن كان هناك ذلك الشاب العشريني؛ معلم اللغة العربية “زكريا” الذي هام بها حبا، ودار بشوارع قريتنا يخبر الجميع أنها له، وأنه سيتزوجها.

تنقل بين المجالس، يصارع من تقع عيناه عليها، يطاردها في كل مكان ويقصص مغامراتها المشينة على كل من يفكر في خطبتها.

اعترض طريقها كثيرا، وأخبرها أنه يحبها، فكانت تجيبه بابتسامة ونظرة عين مغرية، ثم تتركه في لوعته، لكن عندما تقدم لخطبتها رفضته!

كانت تتلذذ بتعذيب معجبيها، وتتفاخر بتصارعهم عليها، تمشي بثقة، تضرب الأرض بقدميها، لا تأبه بالمحيطين بها، كأنها ملكة تسير بزهو بين رعاياها.

ضاقت والدتها بها ذرعا، وغضب والدها من رفضها لكل من يتقدم؛ خاصة ذلك الشاب “زكريا” الذي وجده مناسبا لها، فقرر تتبعها، وحينها اكتشف حقيقة الإشاعات المثارة حولها، والتي كانت حكايات للسمر في القرية بين الرجال وهم يتناولون أقداح الشاي.

سمعهم ذات ليلة، لكنه رفض التصديق، لكن رفضها المستمر قد أدخل الشك بقلبه، وبالفعل اكتشف ما كان يخشاه!

هي كاذبة؛ تترك مدرستها لتقابل الشباب، تتلاعب بالجميع؛ معجبيها وعائلتها.

فكرة

استشاط الأب غضبا، لكنه كظم غيظه، وعاد إلى منزله يؤثر عدم إثارة فضيحة تحمله عارا لن ينمحي إلا بالدم، تململ في فراشه وهو يفكر في حل، ثم اتقدت في ذهنه فكرة راقت له، ومنحته السلام ليغط في نوم عميق.

في الصباح الباكر، أخبرها بأنها ستتزوج زكريا، و لن تكمل تعليمها، وعندما رفضت عاجلها بصفعة طرحتها أرضا، وانفجر الدم من شفتيها.

أرسل في طلب زكريا ليزف إليه خبر موافقته، هكذا روت أم إسماعيل؛ جارة وفاء القصة لوالدتي.

انتشر خبر خطبتها في قريتنا كالنار في الهشيم، وسار زكريا مزهوا كالبطل المنتصر بين كل الفرسان؛ لقد حاز الأميرة الجميلة؛ محبوبته التي كان ينعتها بأصل الحياة، ويخبرها أن من قلبها نشأت الدنيا، وتعددت المجرات، ودارت في فلكها الكواكب، وأنها هي الأصل والبداية ومعها النهاية.

كان لا يخجل من ترديد ذلك في كل مكان، لكنها لم تأبه لحبه؛ كانت تحتقره وترفض تقبله كخطيب، تجهر بمشاعرها تجاهه باستمرار.

تعلو الهمهمات كلما مر بجمع من الرجال، ويتبعونه بنظرة احتقار يرددون ديوث، يثور للحظات، ثم يخمد بحر عينيها بركانه ليحل مكانه السكون.

في إحدى الليالي؛ ارتفعت أصوات الشجار التي كانت كفيلة بإيقاظ قريتنا الصغيرة؛ والد وفاء كان يصرخ بها، وصوت صفعاته كادت تصم الآذان.

لم نتدخل، وعدنا إلى فراشنا، لعل الجميع أثلج صدره ضربها، وفي الصباح الباكر، كانت القرية تعج بالحديث عن وفاء التي هربت.

ركض زكريا باحثا عنها في كل مكان، قضى الليال الطوال بين الطرقات صارخا باسمها، ترك عمله وأطلق لحيته، وشعره كان هائجا مثل أفكاره المتصارعة.

رق الجميع لحاله، لكن الحب تملك منه وسلب لبه مثلما تفعل النداهة بضحاياها!

وفي صباح حزين، تعالت الصرخات عندما طفا جسدها فوق صفحة الماء جوار شجرة الصفصاف، لا نعلم حتى الآن؛ هل قتلت أم انتحرت؟!

تحقيقات موسعة انتهت بالقيد ضد مجهول بعد استجواب العشرات؛ حتى زكريا تم استجوابه.

المجهول

دفنت ومعها سرها المجهول، وانتهت ذكراها من القلوب؛ حتى أسرتها عادت للحياة بسرعة مريبة، كأن موتها قد أراحهم، إلا ذلك المهووس “زكريا” آثر البقاء بجانب الشجرة، رسم وجهها على جذع الشجرة، وحفر تلك الكلمات.

عيناه معلقتان بمكان ظهور جثتها؛ يناجيها ودمعه سابقه؛ يبكي وينتحب حتى يبلل لحيته.

هزل جسده وهاجمته الأمراض، وقد مر عامان وهو على حاله، حتى وجدوه جثة هامدة في أحد الأيام، لتنتهي الحكاية وتنسى في زحام الحياة.

لكني بعد مرور السنوات، ما زلت أتذكر؛ وفاء وزكريا وشجرة الصفصاف.

ابتسمت نصف ابتسامة، وتمتمت في حزن:

– مسكين زكريا، لم يهزمه المرض؛ لكنه عاشق قتله الهوى!.

النداهة النداهة

تصميم: مها شاهين

المزيد من المقالات مجلة ريمونارف

لمتابعة كل ما هو جديد من هنا

النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد ريمونارف الأدبية ريمونارف
النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد
النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد ريمونارف الأدبية ريمونارف
النداهة بقلم: الزهراء محمد سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top