وهكذا اِستحـــــــالَ طيفا
بقلم: إسراء عبد الكريم
كانت تبدو عنيفةً، صعبة المِــــراس، قاسيةً كقِـــــشرة جوز هند، مؤذيةً أحيانا كأشواك صبّار، قد صبَــــغَـــتها الظروف المحيطةُ الأقوى منها بصباغٍ قـــــاتمٍ بعض الشيء، لكن في داخلها كانت هناك شخصيةٌ مختلفةٌ تماما؛ شخصيّةٌ ذات قلـــــب حنونٍ حزين، قد حطّمــــهُ الألمُ والحنين والاشتياق.
بعينين حالمتين برّاقتــــين قد أثّـــــر فيهما هطلُ الدموع والسهر، وروح شفّـــــافة رقيقة قد أُنهِــــكت من شدة أنيـــــنها المتواصل.
لكن ما فائــــدةُ كُلِّ ذلك؟!
تنهّـــــدت تنهيدتها المعروفة وأطرقت مليّــــــا، ثم رفعت رأسها تنظر إلى الأفق البعيد مَغِـيبـــــا، حيث تتصل السماء بالأرض، لا يفصل بينهما أحيانا إلا جبال ممتدة، ثم حرّكــــتْ شفتيها بصوت خافت غير مسموع إلا لقلبها:
“في مكان ما من هذا العالم المترامي الأطراف ثمّــــة شخصٌ واحدٌ فقط من بين الملايين، يستطيع إنقاذ روحي التي تحتضر، لكن أين هو يا ترى، وكيف سيعثر علـــــيَّ أو أعثُــر عليه؟”
تنهدت مرة أخرى وعادت لإطراقها الطويل!
شخصٌ واحدٌ كانت تنتظر مجيئهُ بفارغ الصبر منذ تفتّــحت في قلبها أزاهير الشعور، ومازجت قلبها الصغير نُــسَــيماتُ الحب الطّـاهر العفيف.
صارت كلَّ يومٍ تُــنهي أعمالها بسرعة وتذهب لخلوَتـــها وعُــزلتها الموحشةِ والمؤنسة في آنٍ، على سطح منزلها، تحت قبة السماء، كيفما اتفق الوقت معها.
وهناك.. لا تعود سُــحُــبُ العينينِ قادرةً على حبس مائها أكثر، ولا يعود بإمكانِ القلبِ السيطرةُ على توهُّـــــجهِ الملتهب بشدة، فتأذن لتلك بالإغداق، ولهذا بالاحتراق، وتجلس بينهما بين مواسٍ و آسِ.
وبرغم أن هذا المشهد قد تكرّر عشــــــرات المرّات حتى بلوغها عامها العشرين، لكن لم يزل لهيب الاحتراق يتصاعد حارّا مُحرقا كمناجاةٍ نحو خالقه الوحيد الشاعر به، متوسّـــــلاً أن يُـــقرَّ عين فؤاده بقُــربِ رفيق العُـمر المجهول المُــــنتظَـــر.
لقد رسَـــمَــتهُ في كلِّ الأرجاء، على الورق، وفي نجوم السماء.. حتى غدت ملامحه لها أكثـــرَ نقاءً من صفوِ ماء.
ذاك شقيق الروح حقا، مَــن في قُــربه فقط ستأنس وتبتسمْ،
وفي بُـــعدِه تُــجرّحُ ولا تلتئم..
مَــن يُــبهِــجهُ اتصالُ الأرواحِ قبل أو دون اتصال الأجساد..
نعم.. ذاك هو من رفضت أثرياء كُــــثُـر، وأصحابَ نفوذٍ وجاهٍ ومكانات اجتماعية مرموقة، وهي تنتظره.
الجميع اتهمها بالسذاجة والبلاهة بسبب تأجيل الموجود لانتظار غائب، وما علموا أنها كانت مستعدة لقبول عرض تضحية بالموت في سبيل لقائه.
لكنَّ الانتظارات طالت، وعليها الدوائر ضاقت.
فخضعت للمحتوم، وأسلمت للحيّ القيّوم.
وها قد مرّت عشر سنوات، عاشت أكثرها كالميْتِ بلا ممات، وكالحيّ بلا سُبات.
ومن جديد.. عادت لتتفقّد القطعة الأساسية الناقصة؛ لتتفقد حلما، لا كالأحلام.
لكنها عادت هذه المرّة لترسمه بحُلّةٍ جديدة مختلفة، من سجنها الذهبي المرصّع بأنواع اللآلئ، على كُــرّاسةِ طفليها على أنه الملاك الحارس، وتحكي لهما الحكايا عنه، فيُــصغيان بانتباه شديد.
لكنها كانت تسكت بين هُــنيهةٍ وأخرى، وتسرح في سماوات روحِــــها التي ما زالت أرضُـها نقيّةً طاهرةً، لم يطأها إنسان..
فما تلبث في شرودها إلا لُحَيظاتٍ ويهُـــزّانِــها من يديها ويُــقبِّــلانِــها لتستفيق:
– ماما.. ماما.. هيا، أكملي لنا، وماذا بعد؟
— بعد ذلك يا طفليَّ الحبيبين، أخبرَ الملاك الحارس فتاته الجميلة أن تمضي في طريقها مهما كان، وكيفما كان، وهو سيرافقها دائما كطيفٍ مشعّ، يملأ روحها بهجة، و تشعر به دون أن يشعر بهما أحد.