تمسَّك الصغير، ذو السنوات الخمس بطرف جلابيتها الفلاحي، المزركشة بألوان تنبض بالبهجة، رغم العتمة التي كستها لكثرة استخدامها، فضلا عن بعض الرُّقع التي تفنَّنت هي في إخفائها، لكنها رغما عن مهارتها في فنون الحياكة تصرخ بلسان الفقر، تقصُّ حكايات معاناتها، ومكافحتها من أجل البقاء، حكايات تتكرر في كل بيت من بيوت قريناتها؛ في تلك القرية، والقرى المجاورة، فقد كان حال الفرد يروي حال البقية، في تلك الحقبة الزمنية.
كلما مرَّت ببائع استوقفتها الرغبة في الشراء، لكن غلاء الأسعار يدفعها لمغادرته إلى غيره، فلقد علمها فحش الغلاء الاستغناء.
تمتلئ ساحة السوق في هذا اليوم من كل أسبوع بالبائعين، الآتين من كل حدب وصوب، مجتمعين؛ كل يستعرض بضاعته، ولا يقربها، فليس حالهم بأحسن من حال الزبائن، الكل جائع، جاء ليحصل على ما يسد بالكاد رمقه، وصغاره القابعين في الدور منتظرين، أو كذلك الصغير الذي تشبث بأُمِّه، راغبا في صحبتها، ربما ينال نصيبا زائدا عن إخوته من بعض ثمار الخضراوات أو الفاكهة، التي لا تزور البيت إلا في مثل هذا اليوم من كل أسبوع.
لم تخيب أمه ظنه، وألقت في يده ببعض حبَّات العنب، والخوخ، لكنها كالتي طعنته في صدره لمَّا تبعت حسن صنيعها بقولها:
– هذا نصيبك يا بني، والباقي سأوزعه بين إخوتك بمجرد وصولنا.
ذهبت كل آماله أدراج الرياح، لم يكن يدرك أن حظَّه من رفقتها قاصر على رفقتها؛ ليس أكثر.
انتهت رحلة الشراء، وكانت قد وضعت مشترواتها كلها في “سَبَت” من البوص، هو الحقيبة المتعارف عليها بينهن، ثم طلبت من إحداهن أن تساعدها في رفعه فوق رأسها بعد أن ثبتت قطعة قماش ملفوفة، يطلقون عليها “الحواية” تحمي رأسها من الاحتكاك بقاعدة السبت، وكذلك لإحكام تثبيته فوق رأسها، فلا يميل، وبالتالي لا يسقط.
وفي طريق العودة، تحركت شهوة الصغير، الذي لم ينحرف فكره عن جيبه الذي دَسَّ فيه الثمار منذ دقائق، فقرر أن يلقم فمه واحدة وفقط، لكن حلاوتها غَوَته، فتناول الثانية، ثم أخذ يلحق بها أخرى، حتى فوجئ بجيبه قد فرغ من حِصَّته.
ما زال يحتاج المزيد، وقد أجهز على نصيبه كاملا، وفي البيت لن يشارك إخوته متعتهم.
وهنا تفتَّق ذهنه عن فكرة راقت له، واستخدم سبابته كأداة حادة من شأنها خرق جَيْبِه، وظل يكرر المحاولة حتى أفلح..
وحينذاك، ارتدى وجهه البريء، الذي سيواجه به أُمَّه عند العودة؛ عند اكتشافه أمامها _بمنتهى اللا ترتيبٍ مسبق_ بأنه فَقَدَ نصيبه من الفاكهة، نتيجة ذلك الثقب القديم، ولا خيار لديها إلا مشاركته إياهم القِسمة من جديد.. فيا لحيل الصغار!