مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
هكذا رأيتُ ديوان “ما عاد يعنيني الغياب” للشاعرة “رشا لطفي”:
إن ديوان الشعر العربي منذ أن بزغت شمسه، ومضى بيننا أثره لا تخلو قوافيه من شاعرات وقفنَ على ناصية الشعر، وأبحرن بين بحوره، متمكنات من الإبحار عبر الكامل والبسيط والطويل والوافر والمديد والمتقارب، حتى وصلنَ إلى بحاره الستة عشر؛ دون أن تعلق سفنهنّ وسط أمواج الشعر العاتية.
فمنهنّ مثلا شاعرة الجاهلية “صفية بنت ثعلبة الشيبانية”، ومن شعرها:
يا نفس موتي حسرة واستيقني
سيضم جسمك بعد ذاك الملحَدُ
جمدت عيون الناس من عبراتها
وقلوبهم صمٌّ صِلادٌ جلمدُ
لا يرحمون يتيمة محزونة
مقتولة الآباء نضوا تُطرد
تبغي الجوار فلا تجار وقبل ذا
كان المنادي للجوار يسوّد
ومنهنّ كذلك” أم الضحاك المحاربية”، ومن شعرها:
ما عالجَ الناسُ مِن وجدٍ تضمّنهم
إلّا وَوجدي به فوقَ الّذي أجدُ
حَسبي رِضاه وأنّي في مسرّتهِ
وَودّه آخرَ الأيّام أجتهدُ
“وصفية الباهلية”، ومن شعرها في الرثاء:
فاذهب حميدا على ما كان من أثرٍ
فقد ذهبت وأنت السمع والبصرُ
وما رأيتك في قوم أُسرّ بهم
إلا وأنت الذي في القوم تشتهرُ
كنا كأنجمِ ليلٍ بينها قمرٌ
يجلو الدجى فهوى من بيننا القمرُ
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
ومن شاعرات العصر الإسلامي “ليلى الأخيلية”، ومن شعرها:
أبَعْدَ عُثْمانَ تَرْجُو الخَيْرَ أُمَّتُهُ
وكانَ آمنَ مَنْ يَمْشِي على ساقِ
خَلِيفَةُ اللّهِ أَعْطاهُمْ وخَوَّلَهُمْ
ما كانَ مِنْ ذَهَبٍ جَمٍّ وأوْراقِ
فلا تُكَذِّبْ بوَعْدِ اللّهِ وارْضَ بهِ
ولا تُوكّلْ عَلى شَيْءٍ بإشْفاقِ
ولا تَقُولَنْ لشَيءٍ سَوْفَ أَفْعَلُهُ
قد قَدَّرَ اللّهُ ما كلُّ امْرِىءٍ لاقِ
“وبثينة بنت المعتمد بن عماد”، ومن شعرها:
اسـمـع كَـلامـي واسـتَـمع لمَقالتي
فـهـيَ السـلوك بـدَت مـن الأجـيادِ
لا تُـنـكـروا أنّـي سـبـيـتُ وأنّـني
بــنــتٌ لمــلكٍ مــن بــنــي عــبّــادِ
مــلك عــظــيــم قــد تــولّى عـصـرهُ
وَكــذا الزمــان يــؤول للإفـسـادِ
لمّــا أرادَ اللَّه فــرقـة شـمـلِنـا
وَأَذاقَــنــا طـعـمَ الأسـى عـن زادِ
قـامَ النـفـاقُ عـلى أبي في ملكهِ
فَـدنـا الفـراق ولم يـكـن بـمرادِ
وهذه الخنساء “تماضر بنت عمرو بن الحارث”، ومن شعرها:
قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ
أَم ذَرَّفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ
كَأَنَّ عَيني لِذِكراهُ إِذا خَطَرَت
فَيضٌ يَسيلُ عَلى الخَدَّينِ مِدرارُ
تَبكي لِصَخرٍ هِيَ العَبرى وَقَد وَلَهَت
وَدونَهُ مِن جَديدِ التُربِ أَستارُ
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
والكثيرات ممن لا يتسع المقام إلا لذكر بعض أسمائهنَ
كالشاعرة العباسية فضل الشاعرة جارية المتوكل
والأميرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي
حتى جاء عصر الإحياء والبعث، ولمع فيه اسم عائشة التيمورية، ثم توالت العصور مرورا بـ فدوى طوقان وسعاد الصباح…
وبين أيدينا اليوم ديوان “ما عاد يعنيني الغياب” للشاعرة
رشا لطفي..
يتكون الديوان من سبع عشرين قصيدة وقطعة شعرية، ما بين أصالة الشعر العمودي وجمال زخرفة شعر التفعيلة نسافر عبر صفحات هذا الديوان القيم، من بحر الكامل إلى بحر الوافر، ومن البسيط إلى المتقارب، وختاما إلى بحر الرمل، وقد حاز بحر الكامل بأناقته وأصالته نصيب الأسد من قصائد الديوان.
* أغراض الديوان:
إن اللغة الشعرية السائدة في الديوان هي لغة الخطاب، فتارة يرتدي الخطاب ثوب الحكيم، فيرسم المعنى الرصين الممزوج بالدعوة إلى التمرد على العوامل المحيطة بنا؛ مهما كانت هيمنتها على الواقع، ويبدو هذا المقصد جليا في قول الشاعرة (من شعر التفعيلة):
لا تنطفئ
واصعد بحلمك
فوق أكتاف الغسقْ
___
يا معجز التكوين..
يا سرّ الإله.. وما خلقْ
السبقُ مرهونٌ بعزمك
يا صديقي
إن صدقْ
وقولها من الشعر الكلاسيكي:
يا أيها المحزون وحّدَنا الجوى
فاصدع بما تأسى على سمع المَلا
ما كان عيبا أن تبوح بغصةٍ
والعيب كل العيب ألا تفعلا
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
وتارة يستقل الخطاب قطار الذكريات ويمر بنا في جنبات الحنين إلى الطفولة ورفاقها، فتقول من الشعر الكلاسيكي:
صغارا حينها كنا وكانت
أمانينا بريئات صغارا
وحيث خطت خطانا لا نبالي
إذا اشتعل الحنين بنا وثارا
صحاب كالنجوم هوى السهارى
وأنس العاشقين.. هُدى الحيارى
وتارة تطل علينا الحروف من حديث النفس إلى النفس:
لا لم يعد هذا أنا
لا الصوت صوتي
لا، ولا خفقان قلبي
حين يعصرني الحنينْ
وتارة يرتدي الخطاب لغة التحاور بين المحبين، فمرة تحدثه بلغة الكبرياء:
لا لست من تُنسى.. وتُمحى
من تفاصيل الوجودْ
سأظل روحًا شامخًا
قد قدّمته مواكب الذكرى
ليرقى في سماوات الخلودْ
ومرة يحدثها بلغة الاشتياق:
وإني أحنّ وأعلم أنكِ مثلي
تُقاسين نار الحنينْ
وأعلم أن كلينا يلوم كلينا
ويبغض هذا العناد اللعينْ
وتارة تعاتبه:
كيف احتواك زمان غير أزمنتي؟
كيف استطبتَ سوى عينيّ من سكنِ
منذ انتزعتَ فؤادي وارتحلتَ بهِ
ما طاب في أجفني صحوي ولا وَسَني
ثم يعود طالبا الغفران:
أوَتعلمين؟
ما زالت الصرخات من شفتيكِ ضارعةً
تناشد عطف قلبي..
تستغيث برحمتى.. كيما ألينْ
حتى ملامحكِ الحزينة يومها
نُقشت على جدران ذاكرتي
على مر السنينْ
فكأنما قُبل الدعاءُ.. قتيلتي
فغدوتُ في الذكرى سجينْ
وغدوتُ ألعن بؤس طغياني وحمقي
كل حينْ
أتصدقين؟
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
ولعلنا من هذا السرد نتأكد أننا أمام تجربة شعرية ناضجة، وديوان شعر مترابط الأجزاء والأفكار والمشاعر، سليم الوزن، يمر إلى عقل القارئ ووجدانه من خلال لغة سهلة، وتراكيب لغوية رشيقة الصياغة، تحمل أسلوبا تفردت به الشاعرة، وإن بدا تأثرها ببعض عمالقة الشعر العربي، وهذا لا يعيب الشعر في شيء إطلاقا، طالما أن الشاعرة لديها القدرة على أن تصل بخلاصة أسلوبها في قادم الأعمال، ومما يلفت النظر ويدهش العقل مجموعة العناوين التي اختارتها الشاعرة لقصائد الديوان؛ فكانت كلها معبرة عن محتوى القصائد؛ دون خلل أو شرود من ناحية الفكرة أو الإحساس.
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب” للكاتبة د. رشا لطفي بقلم أشرف النعماني
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب” مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب” مراجعة ديوان “ما عاد يعنيني الغياب”
ديوان متميز، ومراجعة اكثر من رائعه