لِمَ؟
بقلم: نشوة أحمد علي
لظروف ما.. كان لزاما عليَّ نقل صغيراتي من مدرستهن التي ما لبثن أن تعودن عليها، إلى مدرسة أخرى، لانتقالنا من المنطقة كاملة، وكان ذلك حظ بناتي معي في الحياة، توالي الترحال بعد فترة عصيبة يقضينها وإياي في محاولة الاعتياد؛ اعتياد بلد غريب، سكان غرباء، وعادات وطبائع أغرب، بل وفي أغلب الأحيان أعنف..
كانت قد انعقدت أواصر قوية بيني وبين مديرة المدرسة، والتي كانت من أطيب من مرّوا بحياتي ومررت بهم، وقد حال وجود سائر المعلمات دون دموعها، عندما أبلغتها بأمر اضطراري لترك مدرستها وإلحاق بناتي بغيرها، وبعد فترة ليست بقصيرة من الدهشة ومحاولتها إثنائي عن قراري، وبعد اقتناعها بأنني لم أختره برغبتي، ولو كان الأمر بيدي لبقيت، فما وجدت لفتياتي مكانا أكثر أمنا من مدرستها، ولا حضنا أكثر لطفا وحنانا من حضنها، نهضت على الفور، وأنهت الأوراق المطوبة بنفسها، ثم أجرت اتصالا هاتفيا ودِّيا بمديرة المدرسة التي سأنطلق بخطاب رسمي إليها بعد دقائق؛ أوصتها خيرا بصغيراتي وأثنت عليهن، وأخبرتها بأنهن الأكثر تفوقا، فلا حاجة لها بتقييمهن، فقد كنا على موعد مع انتهاء النصف الأول من العام الدراسي، وما زلن في بداية المرحلة الابتدائية، ولا اختبارات بالشكل المعهود، وإنما متابعة من معلمة الفصل وبعض الأسئلة بغرض التقييم، ثم الانتقال إلى المرحلة التالية.
لقاء جاف
كان لقاء جافا جامدا، يكتنفه شيء من عدم الراحة بيني وبين مديرة المدرسة الجديدة، لم أقف على تفسير واضح لتقطيبها وتجهمها، بينما ابتسامتي لم تغادرني!
ولم أدرك سبب تجاهلها لمعظم كلامي، حتى شكري في نهاية اللقاء.. لم تعِره اهتماما!
وكما عهدت نفسي، تناسيت ما آذاني من ردَّة فعلها، وتحاشيت التفكير فيه، مع التماسي لأعذار واهية ملفقة؛ أسكت بها نفسي، فلا وقت لدي أضيعه، حسبي ما ينتظرني من محاولات لتأهيل صغيراتي ودعمهن على مواجهة واقع جديد، وأناس جدد؛ رغم ما لاح في الأفق من بوادر عدم اطمئنان، إلا أنني سأكذِّب حَدْسي، ولن ألتفت لوساوسه..
تعاقبت زياراتي لمدرستهن؛ مرة من باب المتابعة، ومرة لأوضح لمعلمة ما سوء تصرفها أو تعنُّتها مع ابنتي، ومرة بدعوة لحضور حفل ما، ومرة لاستيفاء أوراق مطلوبة، ومرة من باب الظهور لبناتي كداعمة؛ إذ مُورِس عليهن من قِبَل معلماتهن وزميلاتهن تنمُّرا شديدا؛ لم أجد له تفسيرا سوى العنصرية، التي ما واجهتها بهذه الضراوة إلا في هذا المجتمع..
وفي كل مرة كان لا بد من الاحتكاك بتلك المديرة، وقبل كل زيارة كنت أهيئ نفسي الطيبة المتسامحة لمقابلتها كالمرة الأولى، دون حمل شائبة من ذكرى سيئة؛ معزِّيةً نفسي بأنها لا بد لها من عذر قهري، وأن داخلها ليِّن رفيق..
لكنها كانت تزداد تجهُّما، تكاد تميَّز في كل مرة من الغضب، وتتعمَّد تقليص مدة زيارتي قدر استطاعتها؛ بأن ترسلني إلى السكرتيرة تارة، أو أن تذكر لي المطلوب في نقاط محددة وتهمّ بالانصراف، أو أنها تتجنب مقابلتي بالأساس..
من أجل راحتهن
لست الأمّ التي تتنازل عن راحة بناتها، وكأنني خُلِقت من أجل الذود عنهن، ومحاربة كل ما يعكِّر صفوهن.
تعجَّلتُ في البحث عن بديل، دونما إشعارهن بعدم الاستقرار، فنصفي داعم لهن، يقتصُّ لكبريائهن، ويبعث ما يميته تنمُّر أولئك الجهلاء فيهن من ثقة، ونصفي الآخر باحث دائم عن مدرسة مناسبة، تتوافر فيها شروطي وفقا لظروفنا، وكذا تتوافق مع طموحاتنا.
لم يتحقق طموحي منذ بداية تعليمهن في إلحاقهن بمدارس تدعم اللغات الأجنبية؛ إذ أن العربية متوفرة لدي، وسألقمهن إياها، لكن المستقبل للإنجليزية، في كافة المجالات، فرضختُ مضطرة، وكُلِّي أمل في تعويضهن لاحقا من خلال الكوسات المنتشرة.
وأثناء رحلة بحثي عن مدرسة مناسبة، علمت بأمر مدرسة ما، وكأنها مفصلَّة على قدر ظروفي وطموحي، لكنها للأسف قسم واحد للغات، وليس في الأفق ثمة أمل في افتتاح فرع جديد للعربية؛ حتى في المستقبل القريب.
انهار ذلك الحلم، لكنني لم أنهار، فأملي كالجبل، لا يهدمه سقوط حَبَّة من رماله، أو جزئ من صخوره.
استأنفت رحلة بحثي غير آبهة، لكن الله عند ظن عبده، وما ظننت به إلا الخير، ففاجأني بعد يومين بخبر افتتاح تلك المدرسة لقسم عربي، وأنه في انتظار المتقدمين، وقد كنت لدى بابها فور علمي بالإعلان؛ دون تفكير.
استعلمت عن المطلوب، وأخذت إذنا من المشرفين بأن آتي ببناتي لقضاء يوم كامل بالمدرسة قبل التقديم، حتى يستأنسن ويسلمن على أهلها.
وبعد دقائق كنت في مكتب مديرة المدرسة المتجهمة، طلبت ملفات بناتي، فأمرت بإحضارها، وسهَّل بُغْضُها لي مهمتي، ثم انصرفتْ، وقد جلستُ أجهز بعض كلمات لطيفة من أجل وداع أنيق، لا يترك النفس إلا راضية، لكنها أبَت إلا أن تذهب مغاضبة، ولم تأتِ.
بترت الكلمات المتقافزة استعدادا للانطلاق، واستلمت صغيراتي، وبدأت رحلتهن في مدرستهن الجديدة، على بركة الله..
لم تكن تلك المديرة بالشخص الأول الذي يسيء معاملتي، لسبب أجهله، وللأسف.. لم تكن الأخيرة، بل إنني أقابل هذه النوعية من البشر؛ متمثلة في رجل أو امرأة، أقابلهم بصفة تكاد تكون يومية، لم أعد أندهش اندهاشي القديم، لكنني أقف عند تساؤل واحد.. لِمَ؟!
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ؟