انتبهت للهجته؛ لعله من بلاد الشام، لكن لا بأس، كم اشتقت للحوار باللغة العربية!
أجبت بسرعة:
-نعم، اسمي علاء من مصر
– أهلا بك يا بني، أنا غسان من لبنان
قلت:
-أنا أعمل هنا في المحطة منذ سبع سنوات.
تنهد مستطردا:
– أنا هنا منذ خمس وثلاثين عاما، حضرت عندما كنت في الثلاثين من عمري، مرت السنوات متلاحقة ولم أدركها.
تنهدت في حسرة وأنا انظر إليه، كأنني أنظر إلى مصيري المحتوم، تابع:
– الشباب يا بني، ساحر يُمنِّيك بطول العمر، ودوام الصحة.
دفعني غروري إلى الإنخراط في ملذات الحياة بلا تفكير، نساء، خمور، وحتى المافيا سلكت طرقها لسنوات، تركت ضيعتي، أشجاري، وجه أمي، وأختي فيروز، وتوسلات أبي ألا أرحل، تركت كل شئ من أجل حلم زائف، حتى حبيبتي أهملتها، وانغمست في علاقات متعددة هنا، حتى مر العمر؛ وتوفي والداي، وتزوجت أختي، ولم أكن حاضرا؛ نسيتهم ونسوني.
اعتقدت أن هنا؛ نعيم أنهار الشهد، لكن الحقيقة المؤسفة أنه؛ شهد مر .
قاوم الرجل دمعة ترقرقت في عينيه الخضراوين، وتشنجت شفتاه، واحمر وجهه، كان على وشك أن يجهش في البكاء .
ربت على كتفه مواسيا:
-لا بأس، إنه القدر .
انتفض وقال:
-ليس القدر فقط؛ بل اختياراتنا أيضا هي السبب .
أخرجت صورة إخوتي من محفظتي وقلت:
-أنا هنا من أجلهم، وليس باختياري.
تجهمت عندما تذكرت قسوة أبي، وتعامله معي كبنك، وليس كإنسان.
لاحظ الرجل تجهمي، اعتذر لي عن مضايقتي بحديثه، لكنني وضحت له أن سبب حزني هو وحدتي، و افتقاد الأهل، والوطن، والحبيبة.
أطرق قليلاً، ثم قال بجدية:
-أترى ذلك القطار، هو يشبه العمر، محطات نمر بها، لكن الاختلاف أن القطار يمر بتلك المحطات مرارا وتكرارا، أما الحياة؛ تمر بلا عودة، كلما مرت محطة كلما اقتربنا من النهاية.
اخترقت كلماته الأخيرة قلبي، وجمدت ملامحي، وارتفعت حرارة وجهي.
استأذنت منه، ووصلت إلى المرحاض، غسلت وجهي بالماء، ثم رأيت انعكاسه في المرآة؛
يا الله؛ لقد تجعد وجهي، وظهرت خصلات بيضاء في مقدمة رأسي، كيف لم ألاحظ ذلك؟!
استندت بظهري للجدار، وأغلقت عيني، توغل الإرهاق لعقلي، وتمتمت:
أريد فقط بعض الراحة؛ أيامي سلسلة من الركض بلا توقف، ألهث مكبلاً بقيد عائلتي لكن، ما الذي يجبرني على الاستمرار؟!
فتحت عيني، ومازالت أفكاري تتصارع، ثم تذكرت غسان، قررت ابتياع فنجان من القهوة له، وعندما وصلت إلى مكانه، اقتربت منه، وقدمت له القهوة بابتسامة ومازحته :
-ها هي القهوة، ويتبقى صوت فيروز، وألحان الرحباني حتى تعود للبنان.
لم يجب، وكانت عينه على قضبان القطار، وجسده ساكناً، اقتربت منه، وأمسكت كتفه؛ فسقط على المقعد جثة هامدة.
سقط الفنجان من يدي، وحاولت إسعافه، لكن انقضى الأمر، أغلقت عينيه، وحملته سيارة الإسعاف؛ وحيداً كما عاش وحيداً.
عدت لغرفتي الصغيرة؛ لم أبدل ثيابي، وارتميت فوق فراشي، عاقدا ذراعي تحت رأسي، ترافقني صورة غسان، وقلبي منفطر، عندها وصلت رسالة جديدة، إنه أبي:
(لقد حددت المبلغ المطلوب للدكان، أرسله في أقرب وقت، ولا تنسى زيادة الراتب الشهري؛ مسكن زوجتي الجديدة زاد إيجاره للضعف).
ألقيت الهاتف بعيداً بلا اهتمام، وغلبني دمعي الغزير، فأجهشت في البكاء حتى غلبني النوم، لأجدني في نفق طويل، يحفني الظلام الدامس، أركض، وتتلاحق أنفاسي، أدور حول نفسي، أبحث عن مخرج، لكن يضيق النفق، وتضيق معه أنفاسي، ثم ظهر النور في آخره، وهناك وجدتها؛ والدتي بوجهها الحنون، احتميت في حضنها، وانتحبت حتى بلل دمعي ثوبها، مسحت الدمع عن وجنتي، وأحاطت وجهي بكفيها؛ لأنظر إلى وجهها الصبوح، وقد اختفت تجاعيده، وثوبها قيم، لا البالي الذي كانت ترتديه دائما، طفت بعيني أقبل ملامحها، قبلت جبهتي ثم وضعت كفها على موضع قلبي وقالت:
“وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا” تذكرها دائما
يتبع ..
تصميم الغلاف: مها شاهين
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا