طيَّب الله ثراكِ، يا فلسطين
بقلم: نشوة أحمد علي
ساقني القَدَرُ إلى قُدْسٍ اشتاقَه قلبي وعيناي، فرأيتُه متكئًا على مِنْسَأتِه، مُسْنِدًا ظَهرَه إلى خيْمَتِه، مُستظلًّا بأفْنانِ أيْكَتِه، فاستقبلنِي بوجهِهِ الذي بَشَّ إثْر مَرآي، يُخفي ببسمتِه عُبوسَ قلبِه، فسألتُه وعلمي بحالِه لا يقلُّ عن علمِه:
– ما بكَ أيها الشيخُ القعيد؟ قابعٌ عندَ بوابةِ الماضي البعيد؟ وما لِغُتْرتِكَ عَلاها التراب؟ ورُقَعُ جلبابِك أَبَتْ على العَدِّ، وأخدودُ الدمعِ محفورٌ على الخَدِّ؟ –
ويكأنني فَقَأْتُ دُمَلَه، فاعتصرُهُ الألم، واستقبلَ قِبْلَتَنا الأولى، وقالَ وكأنه يُحَدِّثُ العَدَم:
– يا أُولَى قبلتيِّ المسلمين، يا روضةَ العابدين، ومَأْرَبَ التائبين، يا مَنْ اختلطتْ على حائطِ أقصاكِ دموعُ الخائنين والمخلِصين، فَنَأَى الدمعُ الطاهرُ بنفسِهِ عن دَنَسِ المُتَباكِين، يا مَهْدَ الحضاراتِ، ومهبِطَ الملائكةِ والمرسَلين، مِنْ داوودَ وسليمانَ حتى مُحَمَّدٍ وصَحَابَتِهِ والتابعين، يا مَطْمعَ الحاخاماتِ والقِسيسين.
طَيَّبُ اللهُ ثراكِ يا فلسطين، واصطفاكِ وأقصاكِ بصلاةِ المرسلين، خلْفَ خاتَمِهم وسيدِهم أجمعين، يا طائرا جريحا ينُوحُ منذُ سنين، على عُشِّهِ المسلوبِ، وفِراخِه المقهورين، يا قاطنةً حَنايا القلبِ وبالضلوعِ تحتمين، يا لَكُثْرِ أوجاعِك! تَبكيكِ جبالُكِ وسهولُكِ وأنهارُك، حتى ثراكِ حزين.
يا زهرةً في فيافينا ذابلةَ الجَبين، فمِنْ أيْن لنا بالرحيقِ لو تَذْبُلين؟ تَئِنُّ أرضُكِ وسماؤكِ تماما كما تئنين، فتذوبُ الحياةُ كَمَدًا لو تَضْعُفين، ويصيبُ الكونَ شَلَلًا لو تعْجَزين، ويصرخُ ثراكِ المُخَضَّبُ بدماءِ رجالِكِ الباسلين، ويكادُ يَجْتثُّ من فوقِه أقدامَ المُعتدين، فلا يرتضي أن يُدَنِّسَهُ دبيبُ الآثمين، بعدما تَشرَّفَ بِخُطَى الأنبياءِ والصالحين، فتقدَّسَ وصارَ في الماضي السحيقِ تِبْرًا قَبْلما تطؤُهُ نِعَالُ الغاشمين، فَتُهَدْهِدِينَه بحِلمِكِ وتقولين:
– دماءُ الشهداءِ تطهرُك، فلا تستهين؛ لن تَنْضِبَ رَحِمِي، وستنجبُ الثَّكَالَى الحَبْلى إما شهداءَ وإما منتصرين، فلا تجزعْ، ولا تقنطْ من نصرِ اللهِ المبين، فَلْندْعُ المولى، ونتوكلْ عليه، وبه نستعين.
يا عروسَ العُروبةِ، متى تُتَوَّجِين؟ أمَا آنَ الأوانُ يَحِلُّ الفَرَحُ محلَّ الأنين؟
فَلْنصبرْ، ولنُعِدَّ للحفْلِ من الآنَ، ولْنَكتُبْ قائمةَ المَدعوين:
فَعَلَى كلِّ عربيٍّ أن يأتيَ وبصحبتِهِ الرياحين، وعلى كلِّ مكلومٍ، يتيمٍ أو لطيمٍ أو ثَكْلَى وكذا المُتَرَمِّلِين، أنْ يشهدَ حفلَ قِصَاصِهِ ولْيَكُنْ من المُتَوَّجِين، ولْيَهْجُرْنا كلُّ كافرٍ بقضيتِنا، وكلُّ الغاشِمين.
وسيُعْقَدُ الحفلُ في قُدْسِنا عاصمةِ العُروبةِ في فِلَسطين، ولْيَكُنْ أَقْصَانَا بِبُرَاقِهِ وقُبَّةِ صخْرتِهِ وجميعِ مُصَلَّيَاتِه من الشاهدين، وكذا أسرابُ الحمائمِ وأغصانُ الزيتونِ من الحاضرين.
سنصنعُ لكِ يومَ النصرِ حُلَّةً من زيتونٍ وريحانٍ وياسَمِينَ، وفوقَ الجبينِ تاجٌ من عَسْجَدٍ به تزدانين، ويومَ عِيدِك ستزهرُ كلُّ الذوابلِ، وتثمرُ كلُّ جدباءَ وقاحِل.
وسيظلُّ الغادرُ كما حَكَمَ اللهُ عليهِ من التائهين، فحتى انتصارُهُ واهنٌ، مؤقَّتٌ، حتما ستنقشعُ غَيْمَتُهُ بعدَ حين، فَهُزُّوا النُّوَّمَ، وأخرِجوهم من سُباتِ الضائعين، وزَلْزِلوا الأرضَ بنهضةٍ، واقتلِعوا جذورَ الغاصِبين.
تركتُ الشيخَ يبتهلُ بِقُدْسِه ويذوبُ عِشْقًا في محرابِ العاشقين، واتجهتُ صَوْبَ الأقصى أُصَلِّي صلاةَ اعتذارٍ، على وعدٍ بأن أكونَ أولَ الثائرين، وأن يتحررَ على أيدينا ويحصدَ أبناؤنا حريةً وكرامةً وتاريخا عظيم.
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا