حنين الذكريات بقلم: بانسيه محمدفضل

شتاء ذكرياتي

شتاء ذكرياتي
شتاء ذكرياتي
شتاء ذكرياتي

شتاء ذكرياتي

كم أكره الشتاء؛ برودته وقسوته!
كم يحمل لي ذكريات مؤلمة تثقل قلبي بآلام لا يمكن نسيانها!
أتذكر تلك الليلة جيدا، ليلة من ليالي ديسيمبر، لم يشفع لنا مطرها الغزير وبردها القارس في إثناء أبي عن فعلته.
أتذكر وقع أقدامنا على الطرقات، ورائحة المطر المختلطة بالأتربة، وركلات أبي تلاحقنا بلا رحمة، لتفعل بجسدي أنا وأختي الأفاعيل.
نعم، إنه أبي، لكنه ليس كالآباء!
كان تاجرا ميسور الحال، أو كنا تقريبا أثرياء، أسرة سعيدة؛ أب وأم وابنتان، نمتلك منزلا كبيرا بحديقة غناء.
أم بشوشة، طيبة القلب، وجهها مشرق كالشمس، كنا نتحادث ونتضاحك ونتقافز حول أبي كأطفال سعداء، لكن الدهر يتقلب؛ فلا فرح يدوم، ولا حزن يدوم.
تعثر أبي ماديا وغدر به صديقه، تتابعت خسائر أبي، وزاده ألما تخلي صديقه عنه.
حاولنا التخفيف عنه، لكن هيهات..
كيف لنا بضعفنا هذا أن نخرج به من أزمته؟!
خسرنا ممتلكاتنا؛ الواحدة تلو الأخرى، انهزم أبي، تبدلت أحواله، انعزل بغرفته وحيدا، ثم تطور الأمر فاتجه للمخدرات؛ كانت ملاذه للهرب مما ألم به، لكنه هوى في غيابة جب عميق، غاص في ظلامه وابتعد عن النور.
لم نفلح جميعا في إقناعه بالإقلاع، باع كل شيء؛ حتى ملابسنا.
أصبح عصبيا، يهشم وجه أمي لأتفه الأسباب، يصرخ ويسب، ولا تهدأ ثورته إلا بعد تناول جرعته، ثم تخور قواه، ويغوص في نوم عميق.
لعنة الله على المخدرات! كيف تحول الإنسان لشبح أو بقايا إنسان؟!
زادت الأمور سوءا ولم يجد أبي بدا من بيع منزلنا، وأصبحنا مشردين، نتنقل بين المنازل، حاولنا العمل بجانب دراستنا بالجامعة، أنا بكلية الطب وأختي بالهندسة، حتى والدتي حاولت جاهدة العمل، لكن هل تكف نقودنا القليلة وحشه؟! بالطبع لا..
حتى جاءت تلك الليلة، عندما خرج أبي من غرفته مترنحا وقد تقلصت ملامحه ألما، وقال:
هيا معي..
اعترضت أمي طريقه، قائلة:
لا، لن أتركهما..
نظر إليها، وقال صارخا:
ابتعدي..
هيا بنا..
لكن أمي اقتربت منا وأحاطت جسدينا بيديها، وهي تصرخ:
لا، هل فقدت عقلك؟!
زاد جنون أبي، ولكم أمي لكمة قوية طرحتها أرضا واصطدمت رأسها بالأرض لتفقد الوعي، وأنا وأختي نصرخ ونحاول الوصول لأمي.
لكنه جذبنا بقوة؛ لدرجة شعرت باختراق أظافره جلدي، استسلمنا تحت وطأة الألم، تحركنا أمامه مسلوبي الإرادة، تلاحقنا ركلاته القوية التي نالت من أجسادنا النحيلة.
كان الشارع خاليا، مظلما وباردا، كان دليلنا ضوء ضعيف من أعمدة الإنارة، سرنا كثيرا، لا أعلم المسافة، لكن أعتقد أننا سرنا لمدة ساعتين.
لم نكن نملك المال لاستقلال سيارة، كنا نرتجف كعصفورين في مهب الريح، كسر جناحاهما، لا يملكان من أمرهما شيئا.
توقف أبي أمام إحدى الحانات، قرأت لافتتها المنيرة، فإذا بها حانة لبيع الخمور وللسهر.
لماذا أتى بنا أبي إلى هنا؟
اقترب أبي، مر رجل مفتول العضلات وهمس له، فنظر الرجل إلينا ودلف إلى الداخل، ثم عاد بعد برهة وتبعه رجل آخر.
اقترب منه أبي وحدثه متوسلا وهو ينظر إلينا، اقترب الرجل منا وأخذ يتفحصنا وهو ينفث دخان غليون، ثم هز رأسه وأخرج من ملابسه شيئا أعطاه لأبي.
إنه المخدر..
التهمه أبي بشراهة وتنحى بعيدا، واقترب منا مفتول العضلات، فصرخنا وابتعدنا عنه، فجذبنا بعنف للداخل.
تعالى صياحنا، طلبنا النجدة من أبي، لكنه كان بعالمه منتشيا، قاومنا وازداد صراخنا.
عاد الرجل وقد اضطرب، وأمرنا بالهدوء، وقال:
أحضركما أبوكما للعمل هنا؛ ثمنا لما طلبه.
قلت صارخة:
ماذا؟ لن نقبل ذلك، دعنا نرحل.
ابتسم بسخرية، وقال:
ونقودي، هل سيعيدها والدكما المدمن؟
قلت بغضب:
لسنا قربانا لشيطانك، ولن نكون.
ثم ركضنا بعيدا، ونظرت لأجد الرجل وحارسه قد انهالا ضربا على أبي، وهو مستسلم.
ركضنا حتى وصلنا للمنزل لنجد والدتنا تقطع الشارع ذهابا وإيابا، وما أن رأتنا حتى ركضت تجاهنا واحتضنتنا ومسحت دموعنا بيديها، وهمست:
هيا.. حان الآن وقت الرحيل.
رحلنا قبل عودته ونجونا
خرجنا ثلاثتنا لا نملك إلا أنفسنا، بدأنا حياتنا بعيدا عن أبي، عملنا بجد، وأصرت والدتي على أن نكمل دراستنا، لن أنسى دموعها ونظرة الفخر يوم تخرجي، ويوم تخرج أختي، كأنها كانت مكافأتها التي مسحت تجاعيد الألم عن وجهها؛ لتعيد لنا وجهها الصبوح وابتسامتها المشرقة.
أنا أعالج المدمنين الآن، أرى في خلاصهم خلاصي، حتى لا تتكرر قصتنا من جديد.
مر الشتاء تلو الآخر، حتى جاءت تلك الليلة؛ عندما طرق بابنا أحد المشردين، كان نحيلا بملابس ممزقة، ووجهه قذر ، غائر العينين، مرتعش اليدين، لا أعلم بردا أم مرضا!
لحيته طويلة جدا، كان يتوسل من أجل الطعام، رق قلبي لحاله، وطلبت أمي مني إحضار الطعام.
اقتربت منه، ثم ابتعدت بسرعة ملتصقة بالجدار، تلاحقت أنفاسي عندما تعرفت عليه؛ إنه أبي أو شبح أبي.
تبادلنا النظرات وسقط الطعام مني أرضا، فحاول جاهدا التقاطه من الأرض وتناوله، همت أختي بغلق الباب، لكن منعتها أمي ونظرت إلينا نظرة أدركنا معناها.
اقتربت منه وربتت على كتفه، فأخذ يتفحص وجهها، ثم تراجع وانفجر باكيا، وقال:
لا أستطيع التصديق!
اقتربت أمي منه وجذبته للداخل، لا أعلم كيف غفرت له؟! لكنها فعلت وأكرمته، وعندما سألتها كان جوابها:
ألا يكفي ما عاناه؟! لقد عاقبته الحياة وأكرمتنا، ألا نكون ممتنين؟! لقد تشرد وأصابه المرض، إنه ضحية مسكين.
أثرت كلمات أمي في نفسي، بالفعل كافأتنا الحياة وأنصفنا القدر، غفرنا له جميعا، لكنه لم يغفر لنفسه أبدًا، عاش معنا صامتا، إذا نظر إلينا اغرورقت عيناه بالدموع، حاولنا جاهدين إعادة ذلك الأب الحنون من جديد، شعر بعطفنا وتبدلت نظرة حزنه إلى حب، وبتر صمته في إحدى الليالي الشتوية، وحملت كلماته كل مشاعر الحب والشكر لنا، وقبل يد والدتي، ودعا لها وطلب منا متوسلا السماح.
سامحناه، فنام قرير العينين، مطمئن القلب، ثم فارق الحياة في هدوء، بكيناه كثيرا وازدادت ذكريات الشتاء المؤلمة بوفاته.
مرت الشهور، تزوجنا أنا وأختي، نجحنا بحياتنا الشخصية والعملية، لكن تلك السعادة التي حظيت بها لم تساعدني على نسيان تلك الليلة بالتحديد، احتفظت بكرهي لديسمبر، وها هو مطره متدفق بغزارة، قطراته تضرب زجاج النوافذ بقوة؛ ترسم وجوها تعيسة، ربما لم تكن تلك القطرات إلا دموع قلوب أدماها القهر في ليلة من لياليه الباردة!
وكأن الشتاء يأبى الرحيل إلا عندما يوشم النفوس بذكريات لا تنسى، شتاء يشبه شتاء ذكرياتي المحتفظة به في ذلك الجانب المظلم من قلبي، فلا هو ينتهي، ولا أنا أنسى؛ مهما حاولت النسيان..
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
شتاء ذكرياتي شتاء ذكرياتي شتاء ذكرياتي شتاء ذكرياتي شتاء ذكرياتي شتاء ذكرياتي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top