سعيد شالبربش
الرجوع بالزمن
بقلم: حسن عبد الرحمن
الحلقة الثانية
تدق عقارب الساعة تعلن عن السادسة صباحًا، فيصحو سعيد على صوت ارتطام مفتاح أنبوبة البوتاجاز بجسم الأنبوبة محدثًا صوتا مدويا في أذنيها، حتى كاد أن يخترقهما:
تن تن تاااان…
فيقوم من نومه وكأنه على أعتاب الحرب العالمية الثالثة من هول ما سمع، يقول في نفسه:
– الله! إيه ده؟!
مش الصوت ده اتمنع من الحتة ييجي من أربعين سنة كده؟ أومال الغاز اللي راكب ده إيه، لما نسمع الصوت ده على الصبح؟
المرآة
يمر سعيد من أمام المرآة في حجرته، غير مكترث كعادته، لأنه سرعان ما نسي أن ينظر إليها كل يوم، كأيام شبابه؛ أيام السبسبة والحفلطة والحزلقة والشعر المنسدل على جبينه.
يأخذ المنشفة متوجهًا إلى الحمام، وكانت المفاجأة؛ أنه وجد أنبوبة البوتاجاز في الحمام، وفى آخر الأنبوب يجلس سخان غاز قديم جدا، والجو كله فى الحمام يعتليه القدم!
يغمض سعيد عينيه ويفتحهما عدة مرات، في دهشة بالغة:
– إيه ده؟ هو في إيه؟ خير إن شاء الله، إيه الفيلم الأبيض واسود اللي أنا وقعت فيه ده؟!
غير أنه يضرب نفسه على وجهه عدة مرات، كى يفيق مما هو عليه، وكان يعطي ظهره للمرآة، فالتفت فجأة ليرى وجهه لأول مرة منذ أن استيقظ من نومه.
– إيه ده! لا لا، لا.. هو فى إيه النهارده؟ هو أنا مالى صغرت كده ليه؟! أنا رجعت شباب والا إييييه؟ إيه ده؟.
شعري زي ما هو، عينى زي ما هي مليانة حيوية الشباب، الله، جرى إيه ياض يا سعيد، هو أنا شربت إكسير الشباب من أم العيال ولا إيييييييييه؟.
أيام زمان
يسمع صوت والده؛ كما كان يسمعه أيام زمان، يقف عند باب الحمام ويحدث والدة سعيد بنفس النبرة القديمة:
= هو الواد ده مش هيخرج بقى؟ أنا هتأخر على شغلى!
– ده صوت أبويا الله يرحمه، ويضرب نفسه على وجهه مرة أخرى، والمفروض بقى المرحومة أمي ترد عليه بالمرة بقى زي زمان..
حتى يسمع صوت والدته القادم عبر نافذة الحمام من المطبخ:
= الله يا ابو سعيد، ما أنت عارف الواد كل يوم كده يا كبد أمه.
فكان يردد نفس العبارات في نفس الوقت مع صوت أمه، لدرجة أنه تخيل أنه هو الذى يتكلم، وليست أمه، وقال في نفسه:
– طب لما اسكت كده، وأشوف أمي هتكمل ولا لأ؟.
فيستمران فى الكلام؛ ويقع سعيد مغشيا عليه.
في المشفى
في المشفى، في غرفة الإفاقة ذات الأسرة البيضاء، يفتح عينيه بروية، فيجد نفسه في غرفة تكتسي باللون الأبيض، وهنا أدرك أنه مات، لا محالة.
– آه، ما أنا قُلت كده من الأول، أنا مت وسمعت صوت أبويا وأمي الله يرحمهم، أهو كده صح أنا ميت!
وأغمض عينيه، فسمع صوت الدكتور عبد السميع، دكتور العائلة الذي كان يعالج معظم العائلة في مشفاه الخاص
= بس الدكتور عبسميع ده مات من زمان هو كمان، آه يبقى أنا كمان ميت، وشوية شوية هيدخل عليا ملايكة العذاب، استر ياااارب.
روسيا
يمسك الدكتور يد سعيد؛ فكانت يد الدكتور باردة جدا كثلج فى غابة من غابات روسيا بفعل التكييف، شعر سعيد أنه مات بالفعل، فقال بصوت مسموع:
– الله يرحمك يا دكتور عبسمييع
فيرد عليه الدكتور:
= إيه يا قليل الأدب اللي انت بتقوله ده؟ أنت.. أنت اتجننت يا ولد؟ مش هتبطل الحركات دي بقى؟.
نظر سعيد إلى الدكتور عبد السميع، فلم يستطع أن يضرب نفسه بالقلم هذه المرة، لأنه كان مقيدا فى السرير بفعل المحاليل المعلقة بيده:
– انت بتقولِّي يا ولد، وأنا راجل كبير، ومعدي الستين سنة؟.
فيجيب عليه الدكتور:
= شوفت؟ أديك رجعت تهزر تانى زى زمان، يا سعدة.
في لهجة المندهش، يقول سعيد:
– سعدة إيه، وعيل إيه، وبتاع إيه، هو في إيه؟.
ينظر إليه عبد السميع وهو يخرج من باب الحجرة:
= مالك يابني، انت اللي في إيه؟ انت شارب حاجة ولا إيه؟ عموما هعدي عليك كمان شوية؛ يمكن تكون اتحسنت شوية، ماشي يا سوسو، تمام يا شالبربش؟
مرة أخرى
تدخل أمه الغرفة وقد استعاد سعيد نصف وعيه، فيظهر في ملامحه الرعب، ولكن عينيه ينتابهما الحنين إلى رؤية أمه مرة أخرى، كانت أمه تحمل بيديها الورد الذي يحبه سعيد.
– إنتِ وحشتيني أوي يا ماما، بقالي زمان ما شوفتكيش؟ زي ما انت يا ماما، ما اتغيرتيش من يوم ما…
= من يوم ما إيه يا واد انت؟ انت على طول بتهزر كده، ولا الواد جمال شربك حاجة امبارح، آه ما أنا عارفاه؛ عيل مش ولا بد.
– لأ يا أمي، جمال إيه؟ أنا بهزر معاكى، بهزر بس، معلش إديني قلمين كده على وشي، عايز افوق، علشان مش عارف أدي نفسي قلمين، أصل زي ما انت شايفه كده.
تضع أمه الورد فى الفاز المجاور لسعيد على الكومودينو وتقول له:
= ههههه قلمين بس؟ مفيش فايدة فيك يا سعيد، عموما مش أنا اللي هديك قلمين، أبوك زمانه جاي من الشغل، وهو اللي هيديك ميت قلم، مش قلمين بس.
أبوك عرف موضوعك مع البت سعاد بنت الجيران، وحالف لما تفوق يرجعك المستشفى تاني، ما تستعجلش.
الليل
وعندما حل الليل.. نفذ سعيد فكرة راودته بعد حديث أمه، وتسلل وهرب من المستشفى، مع أنه لم يكن هناك داع للهرب، لأنه مريض عادي وليس مقبوضا عليه، وكان الأولى به أن يخرج بكل سهولة أمام الجميع، ولكن سعيد شخصية تهوى المغامرات بدون داع.
مشى سعيد أعلى كوبري قصر النيل، الذي لم يتغير كثيرًا عن سابق عهده، ولكن أنواع السيارات بالنسبة له تغيرت كثيرًا؛ فالسيارة الـ128 تغزو القاهرة، والتليفونات ميناتل وتليفون العملة ينتشر هنا وهناك!
دهشة
وفي كافيتريا بقصر النيل، كان عنده موعد تذكره فجأة مع سعاد حبيبته، وكان يجلس على ترابيزة فى انتظارها.
تقترب منه سعاد ذات السابعة عشر من عمرها، وهو ينظر إليها وعيناه ملؤهما الدهشة، وكأن رجلا عجوزا يجلس فى انتظار فتاة صغيرة، في عمر أولاده، فيضع يده على عينه وجبينه، ويفركهما.
تجلس سعاد بسرعة أمام سعيد على الكرسي المقابل له:
= إيه يا بنى، بقالك كام يوم مش باين ليه؟ ده غير إن أبوك عرف الحكاية، وحالف ليقول لأبويا، وباينها هتبقى ليلة سودة يا شالبربش، لازم تتقدملي بسرعة.. سعيد، سعييييد! شالبربببش.
– هاه غايب كام يوم؟ قولي كام سنة؟
تنظر إليه سعاد بدهشة:
= كام سنة إيه؟ ما أنا لسه شايفاك من يومين
– يومين! آه فعلا، ما انتِ عارفة بقى معلش، أصلي لسه دايخ من التعب.
= آه صحيح، انت إيه اللي هربك من المستشفى؟. أبوك بيدور عليك، ولولا الممرضة شافتك وانت نازل من على ماسورة شباك المستشفى، ما كانش أبوك عرف إنك هربت، مش هتبطل الحركات دي يا سعيد؟ صحيح انت هربت ليه؟.
– هربت؟ آه آه، أصلي بحب المغامرات.
= المهم.. هتيجي تقابل بابا إمتى بقى؟.
– بابا؟ ما بلاش يا سعاد، أصل أنا روحت المستقبل، ولقيت حياتنا هناك زي الحلاوة يعني.
= مستقبل وحلاوة، مستقبل إيه؟ أنت هتستعبط؟ قول إنك عايز تخلع من الجوازة وخلاص، عمومًا أنا ماشية، ولما تعوز تقابل بابا، إنت عارف البيت، سلام يا بتاع المستقبل.
المستقبل
ينظر سعيد إليها وهي تخرج مسرعة، وهي تهمهم بكلمات نابية لا يفهم منها شيئا، فيقول فى نفسه:
– في ستين ألف سلامة، ده أنت هتوريني الويل فى المستقبل اللي مش عاجبك ده، ياللا في ستين داهية.
مواساة
وبينما هو جالس في نفس مكانه، بعد خروج سعاد يجد زميله جمال، ولكنه فى عمر الستين، وهو أيضا زميله فى العمل، فيقول باندهاش:
– الله، الله.. إيه ده؟ ده الواد جمال أهه وسنه كبير، أنا كده مش فاهم حاجة، هو أنا صغير ولا كبير، ومش سعاد لسه خارجة ولعنت سلسفيل أبويا، علشان ما روحتش لأبوها، أنا هنادي عليه وأشوف كده..
– ولا.. ولا يا جمال، خد تعالى هنا.
= ولا؟! وجمال حاف كده؟ أما إنك عيل قليل الأدب صحيح، إنت اتجننت يا ولد ولا إيه؟.
تمر ثوانٍ، ويدخل جمال نفسه قبل أن يرفع أبوه يده، وينزل على وجه سعيد..
= بابا حاسب، ده سعيد صاحبي فى الكلية، وهو رخم وبيحب الهزار معلش يا بابا، وكمان علشان أبوه لسه ميت من شوية، سامحه يا بابا..
– أبويا، أبويا مات؟ إمتى؟
ينظر إليه جمال ويغمز له بعينه اليسرى، دليل على أنه يمزح، لكي يخرجه من الموقف السخيف..
يخرج أبو جمال من الكافتيريا بعد مواساة سعيد في موت والده، يجلس جمال أمام سعيد علي نفس الطاولة، ويدس يده في جيبه، ويخرج لفافة بها نوع من الحشيش، ويناولها لسعيد في يده
= ها يا عم، أظن الحتة اللي خدتها المرة اللي فاتت، مخلياك شايفني دلوقتي عيل صغير، مش كده؟
ينظر إليه سعيد بدهشة:
– هو انت اللي عملت كده؟ بس تصدق إنه عالم جامد أوي ياض يا جمال!.
= آه، بس المرة دي بقي خد شوف الصنف ده هيوديك لحد فين؟.
– هيوديني لحد فين، يا جيمي؟.
ناوله جمال اللفافة، وأطبق عليها في فمه بيده، ثم سكب في فمه الماء، وقال:
= ها، انت فين دلوقت؟
– هيوديني فين، يا جييييميييي؟
وفي تلك اللحظة.. يطبق ضابط البوليس يده على يد جمال، ويضع فوهة المسدس فوق رأس سعيد الذي راح ينظر إلى الضابط مندهشا!
الضابط:
– عرفت هيوديك فين، يا سعيد؟
سعيد:
= عرفت يا باشا، هيوديني فين؟.
سعيد شالبربش الرجوع بالزمن
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش سعيد شالبربش