جدي
بقلم: نشوة أحمد علي
كان جدي (رحمه الله) فلاحا، وقد جُعِلْتُ من صُلْب الأرض ومن صلبه، فكنتُ أنا الأخرى بالتبعية فلاحة، نسبة له ولأرضٍ تعهدتني مذ نشأتي بالاحتضان والرعاية..
لم يمسك أيٌّ منا فأسا ذات يوم، وإن كان شرفا فاتنا وأيم الله، لكنها طبيعة القرية الجوادة التي تغدق على كل من لازمها بهِبات وعطايا، وكان أول هباتها لنا نَعْتَنا..
أذكر أنه لما أراد بعض السفاء إلحاق سُبَّة بي، ما وجدوا بعد طويل بحث غير أنني (فلَّاحة)، ولو بصَّرَهم جهلهم الذي أعماهم فضل ذاك النعت وقدره، وما يحمل من مديح، لسحبوه على الفور..
ثم حافظ أبي على العهد؛ فرغم أن عمله لم يكن يوما هينا، ولا قريبا مكانا أو زمانا، إلا أنه قبل التضحية، واستسلم لانتمائه الذي لم يسمح له بالتخلِّي عن جذوره مغادرا..
وتنقَّلتُ بدوري بين الأقطار، وباعدتني عنَّي وعنهم وعن أرضنا الأسفار، لكنني والله ما صادفت دفئا عوضني عما عهدته في قريتي..
(السدس) اسمها، وإن اعتُبِرَت صفحتي المتواضعة منصة، فاسمحوا لي أن أؤرخ لاسمها وأوثقه هنا، لا تشريفا لها، وإنما اعتزازا وفخرا وتشريفا لي..
كان جدي (علي) صديقي، وأدين له بأفضال عصيَّة على العَدِّ، أولها والدي (بارك الله في عمره ومَنَّ عليه بالصحة والعافية)
حفر الزمان في ذاكرتي مواقف بعينِها، كان بطلاها جدي وأنا، منها:
أنه كان دائما ما يقول لي عبارة تشبه تلك التي استخدمها (عبد الوارث عسر) رحمه الله، بلكنته الصعيدية حسب دوره الذي كان يقوم به آنذاك:
( انتي اتعلمتي علام زيادة عن اللزوم، عتفكي الخط، وتجولي كلام يمس الجلب)
بمعنى:
يا نشوة، لقد تعلمتِ إلى الحد الذي جعلك ليس فقط تقرئين وتكتبين، وإنما ارتقيتِ لأن أصبحتِ على أوتار القلب بجميل الكلم تعزفين..
قالها جدي، وكنت أستلقي ضحكا لحداثة سني حينها، ولشَطْح خياله، واستبعادي أن أكون ذات يوم فاعلة..
ثم قال: لما تبقي مشهورة، هتكتبي اسمك واسم أبوكي، وتنسيني..
عندما سمعته ينطق بهكذا ألم، أسررتُ في نفسي عهدا لم أخبره به ولم أبلغه لأي أحد، وهو أنني إذا قُدِّرَ لي يوما، وواتتني الفرصة لتذييل شيء يخصني بتوقيعي، فلن أغفل اسمه أبدا، وها قد فعلت، فَثَالوثي لا يقبل فرقةً ولا اختصارا أبدا، فأنا ( نشوة أحمد علي) دائما وأبدا..
رحم الله آخره ( علي)، وبارك في عمر أوسطه ( أحمد)، وغفر لمن أتت قَدَرا لا قَدْرا في الترتيب أوله ( نشوة)..
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
