ثلاثة أيام في المجزر

رحلة طبيب بيطري

 

ثلاثة أيام في المجزر
ثلاثة أيام في المجزر
رحلة طبيب بيطري

بقلم: نشوة أحمد علي

ثلاثة أيام في المجزر

أول ما اتخرجت من الكلية، جريت ورا طموحي في إني أكون طبيبة بيطرية ناجحة، وبناءً عليه، محتاجة تدريب يصقلني..

ربنا وقفلي ولاد الحلال، ودي دعوة أهلي دايما ليا، وسخرلي ملاك في صورة بشر، (د. يحيي)، صاحب صيدلية بيطرية محترمة، وشغلها كتير، ما شاء الله..

وافق إني أتدرب معاه، وكان أمين في نقل العلم بدرجة فوق الخيال..

الراجل ده لو دعائي بس في ميزان حسناته، يكفيه، لأنه صاحب الفضل الأكبر عليا بعد ربنا في إني اتعلمت أسرار المجال اللي بحبه، وهو حببني فيه أكتر..

علمني كل حاجة، حتى كيفية التعامل مع الجمهور، والتشخيص، والتشريح..

كملت معاه شهرين بالظبط، وبعدها كنت مؤهلة لفتح عيادتي الخاصة والاعتماد على نفسي وإثبات ذاتي وسط العمالقة اللي موجودين، وقد كان..
الحمد لله..

المهم، العيادة مش موضوعنا دلوقتي..

د. يحيي من كتر حرصه على إني أكون وريثة علمه كله، وإنه ما يكونش ناقصني أي نقطة في أي مجال يخص الطب البيطري، ألح عليا أروح كام يوم تمرين في المجزر..

كنت بتوِّهه، وأحاول أتهرب من الورطة دي..
مش عايزة المجازر أنا..
مش هحتاجها..

د. يحيي كان مدير إدارة بالمعاش، ودايرة معارفه ومعاملاته كبيرة، وكان محبوب جدا..

لقيته في يوم بيقوللي: بكرة بإذن الله مش هتيجي على هنا، هتروحي المجزر، وهيستقبلك دكتور فلان وفلان، وأنا مفهمهم كل حاجة، كام يوم بس تاخدي فكرة، وتعرفي شغل المجازر، وترجعي..

أنا أساسا خايفة، وحوادثنا أثناء الدراسة مع المجازر تخض، لأننا روحناها بالفعل، واتدربنا فيها فترة..

ما حدش مننا ناسي العجل اللي خلَّى الدفعة كلها تجري قدامه، وهو مش فاهم ليه؟

ولا ناسيين الجمل اللي وسَّعناله الناحية اليمين عشان يبرك فيها، قام خيِّب توقعاتنا، ونزل ناحية الشمال اللي كنا مستخبيين فيها

قضيت اليوم بطوله أحاول أعصر مخي كده يمكن أفتكر، أنا ممكن أكون زعلت د. يحيي في إيه عشان يحاول يتخلص مني بالشكل ده؟

وكتلميذة مطيعة وابنة بارة، وما باليد حيلة، روحت تاني يوم الصبح بدري المجزر..

دخلت المكتب، لقيت تلاتة دكاترة على مكاتبهم، والعامل بينزل شاي، حرارته من بعيد فكّت إيدي المتلجة، بس ما قدرتش تهدِّي أعصابي البايظة..

قرَّبت من مكتب واحد منهم، وعرَّفته بنفسي..
هما ما كانوش محتاجين أعرَّفهم أصلا، لأنه مفيش بنت غيري ممكن تجرؤ تعمل العملة دي في نفسها..

رحبوا بيا، وحاولوا يطمنوني، وتطوَّع واحد منهم بإنه يشرحلي نظري هنعمل إيه بالظبط، وبعدين نروح نطبق عملي..

مسك ورقة وقلم وبدأ يرسم ويخطط، وكلي آذان صاغية..

وبعدين حبيت أسأله سؤال على الرسمة اللي رسمها، وبسحب منه الورقة عشان أشاور على حاجة، لقيته اتنطر من مكانه فجأة، ومسك إيده، واصحابه مسكوا زجاجة المايه ودلقوها على إيده بسرعة..

للحظة، بصيت وأنا مش مستوعبة، وبعدين اكتشفت إنه جزء من الورقة اللي سحبتها كان تحت كوباية الشاي اللي دوِّبت التلج إياه..

فاكرينها؟

المهم..
الدكتور ده اتلهى بنفسه، وخرج معايا واحد منهم لساحة المجزر، المكان اللي بيتم فيه استقبال الحيوانات والكشف عليهم أحياء، ولو الدكتور لقاهم صالحين للدبح، يندبحوا، وبعد كده يرجع يكشف على اللحوم نفسها وباقي الأعضاء، عشان اللي محتاج يتعدم يتخلصوا منه، والسليم ياخد الختم..

وبالمناسبة..
حسب ما اتعلمت، كل حيوان له ختم خاص، لون وشكل، والختم بيختلف يوميا، مش بس التاريخ بيتغير، لأ، كمان في علامات معينة بيتم تغييرها كل يوم، زي كود سري كده، عشان تمنع الغش والتزوير، ويبقى سهل على جهات الرقابة اكتشاف الدبايح اللي بتتهرب وبتندبح خارج المجزر..

الدكتور علمني، وأنا مركزة عشان عايزة مدة وجودي في المكان ده تقصر، فمش طالبة بأه قلة تركيز وتضييع وقت..

لكن كمان، أنا كنت لسه مخلصة مادة الرقابة على اللحوم طازة، ولسه فاكرة إنه بعض الأعراض في اللحوم ممكن تؤدي إلى إعدام الدبيحة كلها أو نصها أو ربعها أو العضو المصاب، لأنها غير صالحة للاستهلاك الآدمي..

الكلام ده طبعا خسارة كبيرة للجزار، وصعب يقبله..

روحنا على دبيحة، وبدأنا نفحص الغدد واحدة واحدة، والجزار مراقبنا، بس فجأة، حد (الله يسامحه) نادى للدكتور، فشاورلي إني أنتظره، ومش هيغيب..

أنا كملت بأه
قولت أطبق اللي اتعلمته، ومسكت سكينة صغيرة كده، يا دوب بنفتح فتحة صغيرة أوي في مكان الغدة، فبتخرج لبره، نشوف وضعها، ونقرر..

أنا مش رايحة المجزر عشان أتفرج على حالات سليمة، فين الأكشن؟

الغدة من حظي اللي كنت فاكراه حلو كانت مصابة، وبناءً عليه، الربع ده غير صالح..

فرحت أوي، وقولت للجزار اللي كان مبرَّقلي من أول ما غرزت السكينة في دبيحته، وكأنه هيشاركني فرحتي:
– الربع ده لازم يتعدم..

الراجل قرَّب مني، وكان عمَّال يِكْبَر كل ما يقرَّب..
وفجأة، لقيت الدكتور اللي كان معايا، عمل sprint في الهوا، ونط قدامي، وحجِّز بيني وبين الجزار..
من رحمة ربنا إنه ما كانش بعيد عني، كان جنبي، واتفزع من كلمتي اللي بلَّغتها للجزار بمنتهى اللامبالاة والاستهتار، وعدم تقدير لعواقب الأمور، وجه وقف قدامه قبل ما ياكلني

الجزارين اللي كانوا موجودين، كلهم كانوا من نوعية (نحن حلاوة العنتبلي) في فيلم (على باب الوزير)
كانوا يخوفوا، وكانوا بيتميزوا بإنهم لما بيغضبوا، بيكبروا

الدكتور قال له: اصبر لحد ما أشوف بنفسي..

ولما شافها، أكِّد على كلامي: الجزء ده هيتعدم..

بصيت عليه، والجزار بيفاصل معاه، ومش متقبل كلامه، وسيبته بأه وأنا بدعي ربنا ينجيه..

سرحت في أهل الكوكب اللي أنا والدكاترة التلاتة وقعنا عليه..

العمَّال محاوطين نفسهم بسكاكين وسواطير ضخمة، والجزارين مصطبحين ببنزين تقريبا، بيكبروا كل شوية، ويطلعوا نار، والحيوانات ما عندهاش تفاهم، واحنا عُزَّل، جايين نلعب دور الضحايا..

لقيت حالة لسه جاية، فقولت أروح لها بسرعة وأبص عليها قبل ما دكتور منهم يسبقني، ووقفت عندها حوالي عشر دقايق..

استغربت إنه ما حدش جه، مش عادتهم، وبعدين انتبهت لما بصيت حواليا..
كنت لوحدي حرفيا وسط الحيوانات والكائنات اللي معاهم..

فين الدكاترة؟

حسيت بخطر، اتسحبت لحد ما وصلت المكتب..

لقيتهم كلهم موجودين، بس وشوشهم غير اللي استقبلوني بيها، متغيرين، معرفش ليه؟

واحد قاعد على كرسي، ورابط إيده، وساند راسه بإيده التانية، وباصص في الأرض..

قرَّبت منه مخضوضة، وسألته:
– مالك يا دكتور؟

قاللي: وأنا بجري عشان أمنع الجزار إنه يزعقلك، إيدي خبطت في خطَّاف السلسلة..

(للي ما يعرفش، ده عبارة عن جنزير أو سلسلة ضخمة، بتنتهي بخطَّاف أو كلُّوب عشان يتعلق عليه الدبيحة..)

أنا فعلا كنت لمحته بعد ما نط قدامي، مسك إيده وكتم صرخة، بس ما اهتميتش عشان كنت منتبهة للراجل المتعصب عليا..

بصيت الناحية التانية، لقيت دكتور منهم واقف بيلف رباط ضاغط على دراع زميله، وبيقولله لو نقح عليك، لازم تروح تكشف عشان تطمن..

سألته: مالك يا دكتور؟
قاللي: خلَّصت الحالة اللي كانت معايا، وبلتفت عشان أروح للي بعدها، لقيتك رايحالها، بس ما أخدتيش بالك من الولد اللي كان بيجر عربية العضم واختل توازنها في إيده، وكانت هتخبطك، روحت عشان أبعدك، ما لحقتش، كنتي انتي عدِّيتي، وخبطتني هي في كتفي ودراعي..

كل ده وأنا مركزة مع إيده الملتهبة..

فاكرين كوباية الشاي؟

بصيت على الدكتور التالت اللي كان واقف يطببهم..
تجاهلته وما رضيتش أكلمه، كنت متضايقة منه عشان ما جاليش زي زمايله، وما حاولش يشرحلي حاجة..

لقيت واحد منهم بيقولله: جنبك عامل إيه دلوقتي؟

سألته من باب إني أكرم منه، لأني كنت شايفاه الصبح كويس..

قاللي: انتي ماشية وسط الحيوانات كأنك في الملاهي، كنتي قدامي، ناديتك عشان أشرحلك حاجة على الدبيحة اللي في إيدي، ما سمعتنيش، والعجل بيجري من العمال في اتجاهك، جريت عشان أنبهك، نطحني

حمدت ربنا وفرحت عشان عرفت إنه ما كانش مطنشني، وقبلت عذره

خلصت الكام يوم على خير، وسيبتهم وعندي سؤال واحد بس:
ليه ما ظهرتش ضحكتهم على وشهم هما التلاتة غير وهما بيسلموا عليا وقت ما كنت بودَّعهم؟

 

لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا

ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر ثلاثة أيام في المجزر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top