تحت الترهيب

تحت الترهيب

تحت الترهيب
تحت الترهيب
تحت الترهيب
تحت الترهيب:
لقد كفر بمبادئه!
هكذا رأى نفسه؛ فتلك المُثل والأخلاق التي ما فتىء يوما يرددها ويسير على منهاجها، بل ويصدرها أيضا للآخرين، أخذ يرفع لواء التمرّد والعصيان عليها جميعا، حتى كفر بكل ما آمن به، وبكل ما اعتنقه من أفكارٍ ظلّوا يسخرون منها، حتى ظن أنها صارت بالية.
فالمثالية غدت سذاجة، والصدق أصبح سلعة راكدة.
لقد صعد تلك الدرجات الفاصلة في حياته؛ دون أن يخطط لذلك، بل دُفع إليها مرغما، فلا تسير الأقدار وفق أهوائنا، لذا فقد بدأ طريقه الجديد منذ بضع سنوات..
حُلم وقد تحقق، على متن طائرة فاخرة، ومقعد مميز بالدرجة الأولى، فأي حلم أسعد من هذا؟
انطلق صوت قائد الطائرة ليسري عبر الأثير، وكأنه خِدر يتخلل جميع خلاياه، فأهداه الراحة المنشودة؛ لا سيما حينما بُث صوت قائد الطائرة بصوت رخيم:
– مرحبا بكم على متن طائرتكم المميزة (لوفتهانزا) المتجهة إلى جوهانسبرج، برجاء ربط الأحزمة و..
استمر في بث رسائل الترحيب بصوته المطمئِن، وما أن انتهى وارتجت الطائرة أثناء إقلاعها، معلنة عن انطلاقها ثم استقرت بالهواء وسبحت بانسيابية، اقتربت منه مضيفة سمراء حسناء مدببة الأنف، ممشوقة القوام ومصقولة القد، ترتدي تنورة قانية اللون، ترتفع عن ركبتيها بضع سنتيمترات، وبلوزة بيضاء زاهية، وبابتسامة جذابة زادتها حسنا سألته إن كان يريد مشروبا، فأشار برأسه أن لا وأغمض عينيه؛ فقط يسترجع ما ترك خلفه من ذكريات تمنى ألا يسترجعها يوما، لكن ذاكرته أبت أن تنصاع لإرادته، فتوالت الذكريات برأسه تباعا.
موت الضمير:
تعالت ضحكاته الممزوجة بآلام دفينة، فالجميع يرى أن من اعتاد الذنب مات ضميره، ولوثت طبائعه البشرية، وسيطرت شهوة حب الجاه والمال عليه، ولم يكن يستطيع أن يحصل عليهما لو أنه سار على طريق ليس به عوج، أخذ يحدث نفسه تارة، وينظر لذلك المستلقي بجواره تارة أخرى.
اختنق صوته وعلت حشرجة في حنجرته، فحاول أن يتماسك أمام ذاته، ولو لبعض الوقت، فقال بضيق مختنق لذلك المستلقي:
– أتعلم؟ لم أكن أتوقع أنني سأواجه أعتى كوابيسي في يوم ما، وإن أبشعها لهو التواجد هنا؛ بهذا الجو الخانق الرطب!
ضحك ذلك المستلقي وحرك رأسه بطريقة هزلية، وهو يقول:
– لا تقلق، فجميع ما نحن بصدده الآن هراء، فلا زلت أنا ذلك القائد ولو اختلفت الأماكن، فقط أعدّها بعض أيام من الاسترخاء بعيدا عن السُّلطة، والصحافة، وهؤلاء الرعاع المتمثلين في الرأي العام.
انظر حولك.. انظر لتلك الحجرة، فكما تراها مجهزة كأحد الفنادق رفيعة المستوى.
اعتدل من استلقائه، والتقط سيجاره الكوبي ليشعله ويأخذ نفسا عميقا، ثم نفث دخانه بالهواء لينفجر ضاحكا وهو يستطرد:
– ولا تنس أن الخدمة هنا مميزة، ومن يقوم بخدمتك هم من كانوا يظنون أنهم من عِليَة القوم بثقافتهم وكلماتهم الرنانة، فلتسأل نفسك الآن:
من أنت؟ وماذا كنت؟ وكيف أصبحت؟ ولماذا اخترتك أنت كي تقوم بخدمتي؟!
تعجب قليلا من تلك الكلمات والأسئلة، ثم سأل نفسه بصوت مسموع:
– من أنا؟!
أنا (سامر الألفي) ذلك المثالي الأخرق
أما عن ماذا كنت؟ فقد كنت عزيزا في قومي، أسعى لرفعة بلدي، لكن الفساد كان عائقا كبيرا أمامي.
كلنا لصوص:
ضحك الشخص مجددا، واهتز جسده من شدة الضحك، فتملك منه السعال.
أسرع (سامر) وأسعفه ببعض الماء، ليردد ذلك الشخص بتعجب مصطنع:
– الفساد!
تُذكرني باسم فيلم شهير عنوانه (يا عزيزي كلنا لصوص) ألا يمثل لك هذا العنوان شيئا؟!
دعني أقولها أنا بطريقتي الخاصة: (يا عزيزي كلنا في الفساد مشتركون) فلولا الضعفاء والمتخاذلون والمهللون ما كانت الحياة لنا تطيب.
أتعلم أنت لماذا اخترتك لتكون خادمي؟
نظر إليه سامر في تساؤل دون أن يجيب، فاستكمل دون أن يعيره انتباها:
– لأني استمعت لدفاعك عن نفسك أمام القاضي حينما سألك: ماذا تقول فيما هو منسوب إليك؟
قام من جلسته واقترب قليلا من وجهه الشاحب، جاذبا إياه من ياقته، ينفث دخان سيجاره في وجهه، ويستأنف ما بدأه:
– لقد جذبتني إجابتك حينما رفعت عقيرتك قائلا:
(فقط لم أكن فاسدا بما يكفي حتى أستطيع الفرار)
ثم ترك الياقة وهندم له قميصه بشكل مستفز، واسترسل بالحديث بجدية سيطرت على كلماته، وقال بلكنة ساخرة:
– أنا لا أحب المثقفين أمثالك، أنتم لا تعلمون شيئا، تتحدثون وتزيّنون حديثكم بكلمات ثقيلة، وبالأخير تظنون أنفسكم قد تساويتم مع من تحاربون.
هيهات هيهات! فالفاسد لا يفر من البلاد أيها المثقف الزَّلِق، هو فقط يرسل ما يُؤَمِّنه خارج البلاد لينعم بها بالمستقبل، هو من يستمر في الفساد حتى يسود ويشمل الجميع، لا فساد فردي أيها الأحمق، بل الفساد لا بد أن يكون جماعيا حتى لا يتميز أحد على الآخر، فقط من أجل مصلحة عِلْيَة القوم أمثالي.
ثم انفجر ضاحكا بقوة مردفا:
– وليذهب الباقون إلى الجحيم.
رجع (سامر) للخلف قليلا وقد أصابه القليل من التلعثم، وتوترت شفتاه وهو يواجه تلك الكلمات التي ظن قائلها أنه سيظهر أمامه بمظهر الحكيم والفيلسوف، الذي يقود زمرته بتلك المبادىء الغريبة، والذي يَضع بكلماته خطوطا عريضة ليسير الآخرون على نهجه؛ فقال سامر بضيق شديد:
– كنت أظن أن السجن هو النهاية، لكنني وجدت أنه لا يختلف عن الخارج كثيرا.
نظر إليه ذلك المتغطرس وقد ازدادت ابتسامته اتساعا وخُبثا، مشيرا إليه أن يناوله الحذاء، فخضع (سامر) للأوامر دون تردد، بعدما شعر بمهانة ذلك الموقف.
طأطأ رأسَه قليلا ثم انحنى ليُلبِسَه ذلك الحذاء اللعين.
وفجأة.. شعر بلسعة تحرق مؤخرة رأسه -قذالته- فصدر منه صوت أنين ممزوج بألم مكتوم، فصرخ:
– آااااه
ثم كظم غيظه كالعادة، فهذا الذل قائم منذ أن بدأ في خدمة ذلك المجنون المتسلط!
أطلق الآخر صوتا ساخرا يثير الحنق أكثر، ليقول بشماتة لاذعة:
– أووه.. أكانت سيجارتي حارقة بهذا القدر؟! كم هو مؤلم أن تكون عزيزا في قومك كقولك، وذليلا هاهنا تحت قدمي!
ثم اشتدت نبرته سخرية وتشفيا، وهو يؤكد على ما يقول:
– لا بأس لا بأس يا عزيز قومك، فأنت بحُسن خدمتك لي عزيز بين أقرانك، فنيران سيجارتي أحرقت قذالتك، ولكن هناك نيرانٌ أشد فتكا تحرقهم في الخارج، فما أكثر المدخنين بغرف التأديب!
إذلال:
انفجر ضاحكا عقب جملته، ثم جلس ليأمره أن يركع كي يمدد ساقيه فوق ظهره.
ظل (سامر) على هذا الوضع لعدة ثوان؛ مرت عليه كالدهر، فماذا فعلت ثقافته أمام نفوذ صاحب الزنزانة؟ وماذا جناه من حربه ضد الفساد؛ سوى قضية ملفقة ألقيت بطريقه كي يبتعد، ويترك معركة يغتنم فيها الكِبار وحدهم؟
قطع تفكيره بعض الضوضاء في الخارج، فجأة ظهر ذلك الحارس الضخم ليمسكه من قميصه من عند كتفه الأيمن، ليجرجره حتى زنزانته.
وما أن دلف بها، حتى نظر للوجوه من حوله، فبعضهم قد اسودت وجوههم من الانتظار والترقب، وبعض منهم قد ظهرت عليه علامات التعذيب، وآثار صعق بالكهرباء، ومنهم من التهمه الوهم والمرض من كثرة الترهيب.
غير صنبور الماء الذي يعزف سيمفونية الأرق طوال الليل، فلا نفس ولا حديث مشترك، ومن يتحدث يأخذونه ويطرَبون طوال الليل بصراخه؛ فالنوم عزيز على أبدانٍ قد أرهقها الظلم!
اهتزت الطائرة في مطب هوائي، ففاق من غفوته وذكرياته المريرة، فتح عينيه ومد يده لزجاجته التي أمامه فتجرع منها بعض الماء البارد.
تنهد ثم تبسم، لقد رأى النور بعد الظلام، وذاق طعم الحرية بعد مرارة الاستعباد التي استمرت لثلاث سنوات، وكأنها سنون عجاف جفت فيها الأنهار، وسقطت فيها جذوع الأشجار.
التفت حوله، ثم نظر من خلف زجاج النافذة المجاورة له، فترقرقت الدموع في عينيه حينما تذكر نفسه بتلك الغرفة المظلمة، عاري الجسد يجلس على الكرسي المعدني مرتعدة أطرافه من البرد، وقد سالت من بين شفتيه الدماء الثخنة، هناك كدمات وسحجات وآلام مبرحة انتشرت بكامل جسده،
خطوات من خلفه، وصفعة كادت أن تطيح برأسه، وضحكات متقطعة يملؤها الانتشاء، فكأنما كابوس أراد أن يستيقظ منه، فقد تناوب المتواجدون بالغرفة على تعذيبه بشتى الطرق. وبالأخير أوقد أحدهم نيرانا للتدفئة تحت كرسيه، فلم يشعر بنفسه إلا وهو بين الحياة والموت في مشفى السجن، كل هذا لأنه قد خارت قواه، ورفض أن يزداد عليه ذُل سيده!
لم يكن يعلم أن حياته ستنقلب رأسا على عقب، وأن سبيل الرشاد بات بعيد المنال!
حينما كان بالمشفى بين التعب والإرهاق، جاءه أحدهم ممن لهم هيبة لا تخفى عن الأعين، جلس بجواره كصديق حميم، وأخذ هذا الغريب يحدثه لبعض الوقت ببضع كلمات جمدت الدماء بعروقه.
وافق دون إرادة منه على ما أملي عليه، لقد كان لحديث هذا الغريب ورغم قسوته حلاوة لم يذق طعمها مذ سنوات، لقد كان اتفاقا مغريا أسال لعابه، واستبدت له الفرحة بقلبه!
أخيرا سيأخذ بثأره، أخيرا سينهي الضيم الواقع عليه.
شعر أنه اتفاق سيعيد له نبض كرامته، ويستعيد به الحياة من جديد.
لقد كان الوحيد الذي يستطيع دخول زنزانة المسئول الفاسد بحكم خدمته له، لقد استيقظ الجميع في صبيحة هذا اليوم على صوت المأمور المنزعج، ومن حوله العسكر يتهامسون حول زنزانة المسئول المرموق، وعن مظهره الأشعث وعينيه الشاخصتين.
– لقد كان متدلٍّ من السقف بملاءة سريره، يبدو أنها حالة انتحار!
هكذا قالها المأمور
جميع الحضور يعلمون أن وجوده كان يهدد الكبار خارج أسوار السجن اللعين، وبكثير من المال، وبمساعدة بعض الخائنين في تلك المنظومة الفاسدة، استطاعوا أن يتخلصوا من الأدلة التي تهدد وجودهم في مناصبهم!
أخذ نفسا عميقا تنسم به هواء الحرية، ثم قام باستدعاء المضيفة وطلب منها وجبة ساخنة، حينما أتت بها تناولها بنهم شديد، وقد زينت وجهه ابتسامة واسعة حينما فتح إحدى الصحف القومية التي نشرت عن الحادث، فأخذ يحدث صورة ذلك الفاسد وهو متدل.
– لن أنسى توسلاتك يا عزيزي، ولن أنسى كم طرِبتْ أُذناي بصراخك، أنت تستحق أكثر من ذلك، ولو كان الأمر بيدي لكنت مزقتك إربا، لولا أنهم أرادوها انتحارا، يكفيني حسرتك وقهرك وتلذذي بركوعك تحت قدمي، فكثرة الظلم تخلق من السلام دمارا.
لقد صدقت يا هذا، حينما أخبرتني أن الفاسدين لا يخرجون من البلاد، بل يستوطنونها ويعيثون فيها الفساد.
نعم، كنت محقا في ذلك، وكنت أنا أيضا على حق.
الآن.. الآن فقط قد تأكدت من معتقدي.
ألا تعلم ما هو؟!
حقا لم أكن فاسدا بما يكفي؛ لذلك.. لذلك خرجت منها.
تحت الترهيب .. تحت الترهيب
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا

تحت الترهيب

تحت الترهيب
تحت الترهيب

1 فكرة عن “تحت الترهيب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top