تأديب على الدوام
بقلم: نشوة أحمد علي
الغربة بترك الأهل والوطن هو شعور صعب ولا شك لكنك تكتشف بمرور الوقت وتتابع الكبوات أنه ما كان إلا حاوية لمشاعر أخرى تنافسه في حفر آثار الوجائع في النفس..
افتتح سفري باب الأزمات، فانفصلتُ ببعضي عن بعضي؛ إذ تركتُ أبوي وإخوتي، واصطحبتُ فلذات كبدي.
جسدي مغتربٌ عن وطني، وروحي مُعلَّقةٌ بساكنيه، لكنها سُنَّة الحياة، ولا مناص من الانصياع والرضوخ.
حملتُ أوجاعي على ثقلها، وحاولتُ التكيُّف مع وتيرة الحياة، التي ديدنها المفاجآت، والخروج عن وتيرتها بما يدفعنا نحو دوامة من التِّيه والتشتت، دوامة مجهولة المصدر، غير محددة النهاية، غير مأمونة العاقبة، غير محسوبة المُدَّة..
لم أعد أذكر بأي الدوامات بدأت عثراتي، وبأي مفاجأة قذفتني غربتي؟! لكنها قذفتني ذات يوم بمرضٍ خطير، مفاجأة قَلَبَت حياتنا رأسا على عقب، فأنا العقل المدبِّر لحياتهن، واليد المُتصرِّفة في شتى شؤونهن؛ ثلاث فتياتٍ وأُمٌّ!
كيف لهن بالتصرُّف في أمورهن؟ كيف يراعين الصغيرة، التي لم تتجاوز عامها الأول؟
رفضت صغرى بناتي الواقع الذي فُرِض عليها، رفضت تصديق عالمها بدوني، فكانت تقضي الساعات نائمة، تفيق للسؤال عني، ثم تستأنف رحلة الفرار من مكان يخلو مِنِّي بالنوم، تستغرق فيه أو لا تستغرق؛ المهم أن تتعاون مع الوقت كي يَمُرَّ، وما أثقل سويعات الفراق على تلك الصديقة الرقيقة!
ممنوعةٌ أنا من مغادرة المستشفى، لكن فؤادي يأبى الخضوع لقواعد تفصله عن حجراته الثلاث؛ صغيراتي اللواتي لم يُجرِّبْن فراقي من قبل.
تمرَّدتُ حينا، وتحايلتُ حينا، حتى قطعتُ عهدا على نفسي بزيارتهن، ثم العودة قبل موعد جرعات العلاج التالية..
وعندما فتحن الباب، تعلَّقَ ناظراها بالفراغ حتى لمحتني، فارتمت بين أحضاني، تنطق كل خلجاتها اشتياقا، وعتابا، تقول بغير كلام ما لا يخفى على مثلي، فهي توءمي، صورتي المُصغَّرة، بعضي الذي كنتُ أعتقد استحالة انفصاله عنِّي..
علَّمني غدر الدنيا أن أستبق التوقعات، وأتخذ كافة الاحتياطات، وأستعدَّ بحَلٍّ لكل مشكلة، وأن أحسن استقبال الأزمات.
عدتُّ إليهن، وقد وثَّقتُ ميثاقي الذي أسررتُه بيني وبين نفسي بالتنفيذ؛ فأخذتُ في تعليمهن كل شيءٍ من شأنه يمكِّنهن من مجابهة الحياة، والاعتماد على أنفسهن دون اللجوء لغير الله.
درَّبتهن بعون الله على مواجهة الأزمات، واستوعبن على حداثتهن، ساعدنني في التلقِّي، وكأنهن أدركن سِرًّا لم أَبُح به لهن أبدا، وهو أنني أجهزهن للحياة من دوني، فقد تعلَّمتُ أن الفراق أحد الأقدار، وأنه حادث حادث مهما احتطت له.
كنتُ أظنُّ أنه لن يأتيني إلا على صورة الموت، لكنه أَبَى إلا أن يعلِّمني صورة أخرى، أشد قسوة، فأتى، كما لم أحسب له حسابا..
وما زالت تصارعني الدنيا، فأقاوم، وأتعلَّم، وكلما أتقنتُ درسا، ناولتني غيره، بمنهجٍ جديد، وتربيةٍ خاصة، ومعلمين غير متوقَّعين.
تلميذةٌ أنا في مدرستها على الدوام، أعيش مراحل متوالية من التأديب..
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
تأديب على الدوام تأديب على الدوام تأديب على الدوام تأديب على الدوام