المعطف
بقلم: حسن عبد الرحمن
المعطف
تُرى.. ما الدافع القوي الذي يدفع صادق عبد الصبور إلى الانتقام بهذه الطريقة البشعة من مديره؟ وما هي المحاولات المُضنية للانتقام بتلك الطريقة؟
كل ذلك ستقرأه في السطور التالية من قصة “المعطف”
التخطيط الجيد
استقل سيارته وكل ما كان يجول في خاطره وقتها هو الانتقام، فلم يسعفه حظه أكثر من مرة لتنفيذ خطَّة قد أجمعها في رأسه طوال الليل، وعندما حاول التنفيذ باءت بالفشل الذريع، ولا يعرف أهو الحظ، أم هو عدم اكتمال التخطيط الجيد لوجود ثغرات صغيرة تحول بينه وبين ما ينوي فعله!.
خلف المصنع
انعطف بسيارته ناحية المصنع الذي كان يعمل به قبل أن يتم الاستغناء عنه؛ مع التطهير الذي يلازم حال معظم الشركات والمصانع هذه الآونة، إما بسبب الكورونا أو لأسباب أخرى تتعلق بالمصنع نفسه، أو لأي سبب هو نفسه يجهله.
توقف بسيارته خلف المصنع، وراح يراقب بابه الشاهق من بعيد، على أمل أن يجده خارجًا من الباب، فيتبعه ويقوم بتنفيذ خطته الجديدة التي كان يأمل هذه المرة أن تنجح وتؤتي ثمارها حتى يرتاح مما هو فيه، غير أن الشمس أوشكت على الغروب، فشعر بغربة عُصفور فقدَ فرع شجرته أو فارق أمه؛.
الغروب يعني
كان الغروب يعني له هذا، لكنه وضع على وجهه اللثام وترجل حتى وصل إلى باب المصنع، وغير من طبقة صوته حتى لا يعرفه رفاعي حارس البوابة، الذي كانت تربطه به زمالة عمل، على الأقل وهو يخرج كل يومٍ من المصنع ليلقي على سمعه آخر طُرفة، حتى أن رفاعي إلى اليوم لا يصدق أن المصنع قد استغنى عنه وعن باقي العمال، لأنه يعَدُّ خسارة كبيرة وخبرة مفقودة.
سيجارة
وصل إلى رفاعي وناوله سيجارة، ثم أردف يسأله عن المدير؛ أهو في الداخل حتى الآن؟
لم يجبه رفاعي إلا بعد أن قال له إنه قريب له من البلد ويريد أن يطمئن على أحواله.
أكد له رفاعي أنه لم يحضر اليوم، وأنه في إجازة لمدة أسبوع.
استدار عائدًا مستشيطًا، وقد برقت أمام عينيه ألف خُطَّة وخُطَّة بديلة.
توقف أمام منزله، ثم دس ورقة من فئة الخمسة جنيهات في يد حارس العَقَار، الذي أخذها على مضض بعد أن نظر إليها مختلسًا؛ فبادره بالسؤال عن المدير بعد أن قال له إنه قريبه، ومعه رسالة من البلد بها طرد طعام وغيره
حارس العقار
برقت عينا حارس العَقَار واعترف سريعًا بمكانه، وكانت الإجابة صادمة له؛ حيث كان المدير ينعم بإجازة في الساحل الشمالي، للترفيه عن نفسه من قسوة العمل في الآونة الأخيرة!.
أي قسوة عمل هذه؟!هل هي التسبب في قطع عيش العاملين بالمصنع، أم ماذا؟!.
لا أدري يا سادة، المدير الوغد ذهب ليستجم إذًا..
أخذ سيارته دون تفكير، بعد أن منحها الوقود الذي تحبه، الذي استهلك نصف ما في جيبه من نقود، واتجه بسيارته صوب الساحل الشمالي، لفت نظره إعلانات عن ساحر على المسرح في عروض بهلوانية، سوف تقام الليلة، والإعلان يملأ المكان هنا وهناك وبكثرة، وعلم بطريقة ما أن كل نزلاء الفندق سيحضرون العرض لأنه عرض مجاني، وأن المدير من أنصار المجانية.
المسرح
دلف إلى المسرح، ومن ثم إلى حجرة الساحر الذي سيلعب لُعْبَة خداع الجمهور. ثم بعد نصف ساعة؛ خرج من حجرته في ملابس الساحر!
هل قتل الساحر وأخذ مكانه، أم اتفق معه وأعطاه النصف المتبقي من أمواله؟!
لا ندري ماذا حدث؟!
توجه صوب المسرح ووقف أمام الصندوق السحري، وكان المدير يجلس في الصفوف الأولى وبجانبه أولاده وزوجته، وبالطبع لم يتعرف عليه لأنه كان متنكرًا جيدا، وغير متوقع حضوره في هذا المكان.
أخرج من جعبته السيوف التي سيرشقها في الضحية يمينا ويسارا، وبعد أن يرشقها في كل مكان يخرج الشخص وكأن شيئا لم يكن، أو يقطعه بالسيف نصفين، ثم يعود مرة أخرى بعد أن يفرغ الساحر من تقطيعه، فيصفق الجمهور.
الجمهور
اتفق مع الجمهور على أنه سيضع عصابة سوداء على عينيه، ثم ينزل بين الجمهور ويختار شخصا معينا لا يعرفه، وسيقطعه بالسيف ثم يرجعه مرة أخرى كما كان، وللمصداقية حتى لا يقول الجمهور بإنه يعمل معه، فقد وضع العصابة على عينيه.
توجه إلى الجمهور ثم وقف أمامه، وفجأة وضع يده عليه واختاره، ومع التصفيق والصفير صعدا إلى المسرح، وأدخله إلى الصندوق، ثم راح يرشق في جسده السيوف واحدًا تلو الآخر، ثم وضع قطعة من القماش ليخفي الصندوق، وبعد ثوانٍ معدودة، أزاح الستار عن الصندوق وفتحه، وكانت المفاجأة له كبيرة؛ خرج المدير سليما تمامًا، وأخذ يحيي الجمهور بالانحناء وسط تصفيق حاد وذهول له هو شخصيا، مما اضطره إلى تحية الجمهور وترك المسرح للفقرة القادمة.
الموت المحقق
لا يعلم أن المسرح به فَتْحَة من أسفل الصندوق، كان يعرفها المدير جيدا لأنه قبل أن يعمل مديرًا في المصنع كان يعمل أعمالا أخرى، وكانت هذه إحدى الوظائف، فكان من حسن حظه أنه يعرفها جيدا، وبذلك نجا من الموت المحقق.
أطلق لقدميه العَنان بعد أن رأى الساحر الحقيقي، يشير عليه لأفراد أمن الفندق، لأنه عندما دخل حجرته أفقده الوعى بعد أن ضربه على مؤخرة رأسه بيد السيف، ثم أخذ مكانه على المسرح.
الهرب
قفز من مكانه واستطاع الهرب من قبضة الأمن، واختفى تمامًا متسللًا إلى سيارته، وعاد من حيث أتى، وفكرة الانتقام ما زالت تراوده.
حمد الله أن الخُطَّة فشلت، لأنه لو قتله لكان افتضح أمره، وقبض عليه في التو واللحظة، لكنه فكر في خُطَّة؛ كيف يتخلص منه دون أن يترك خلفه أي دليل ولو صغير على جريمته!.
صعد إلى شقَّة المدير بعد أن غافل حارس البناية، واستطاع الدخول إلى الشقَّة على ضوء هاتفه المحمول، ثم دخل إلى حجرة المكتب ووجد عليه بعض الأوراق، وكذلك أدوية وعلاجات، التقط بعض الصور للأدوية، ومنهم دواء يعرفه لكنه لم يتذكر ماذا يعالج!
مظروف أصفر
ثم وجد مظروفا أصفر به عدة أوراق لتقرير طبي لتشخيص حالة مكتوب فيها:
“وقد اكتشفنا بأنه حالة رهاب الشياطين أو (ديمونوفوبيا) بحالة واضحة لا شك فيها”
أخذ صورة من التقرير الطبي وجميع الأوراق داخل المظروف، وأعاده مرة أخرى إلى مكانه ورتب الأوراق كما كانت، وخرج من الشقَّة وقد اختمرت في ذهنه بعض الأفكار.
المعطف
محرك البحث
دخل محرك البحث ليعرف أكثر عن المرض، ووجد أنه حالة رهاب الشياطين أو ديمونوفوبيا إن جاز التعبير، وهو خوف غير طبيعي ومستمر من الكائنات الخارقة، ويعتقد الذين يعانون من هذه الحالة أن هناك كائنات شريرة موجودة؛ في المنزل مثلا أو أي مكان يذهبون إليه، وهي تتجول بحرية، وقد تسبب لهم الهلع والضرر، ثم بحث مرة أخرى عن الأدوية التي قام بتصويرها، فوجد أنها أدوية لعلاج الهلاوس الدماغية والرهاب وما شابه، وأدوية أخرى خاصة بالأزمات القلبية وضعف عضلة القلب، ثم أغلق البحث ونام في سريره في ارتياح شديد بعد أن برقت عيناه وابتسم، ثم راح في سُبات عميق.
يوم واحد
لم يتبق سوى يوم واحد على عودة المدير إلى منزله، أخرج من خزانة ملابسه معطفه الأسود القاتم، ووضع على رأسه قبعة لا يظهر من ملامحه إلا القليل، وخرج من شقته يشق طريقه إلى مهمته التي راح ينسجها طوال الليل.
صعد مرة أخرى إلى شقَّة الرجل، وتجول في كل المكان؛ زارعا سماعات صغيرة الحجم، ولأنه كان قد درس الشقَّة جيدا، فلم يستغرق وقتا كبيرًا حتى إنهاء مهمته.
المرآة
رتب المكان كما كان، وعند باب الشقَّة لمح نفسه بالمرآة التي كانت بجانب الباب، وراح ينظر إلى نفسه، متأملًا ملامحه وهيئته التي تغيرت كثيرًا عن شهر مضى؛ منذ أن كان موظفًا مثاليا بالمصنع، وراح يتأمل كيف غير دافع الانتقام في سلوكه _وهو الذي كان لا يؤذي قطة_ فقد تحولت رغبة الانتقام في دمه، وجعلت منه رجلا جديدًا لا يعرفه!.
تراجع إلى الخلف، وخرج من باب الشقَّة قبل لحظة الانفجار؛ انفجاره في البكاء على حاله وشخصيته الجديدة، راح يتوسل إليها ألَّا تفعل، والأخرى تقول له: لا ترحم.
في الليل
خرج من باب البناية بطريقة عادية، يمسك رأسه ويضع يده على فمه، وكأنه كان عند دكتور الأسنان؛ الذي كانت عيادته في نفس البناية، ثم دلف إلى سيارته واستدار عائدًا إلى منزله.
في الليل، بعد أن اطمأن إلى وجود المدير داخل الشّقَّة بمفرده، وبعد أن افتعل قصة لخروج زوجة المدير وأولاده عن طريق الحيلة، التي بها جعل المدير يجلس بمفرده في المنزل، دخل إلى الشّقَّة في أثناء نومه، وأحضر قلما سحريا وكتب بعض الطلاسم غير المفهومة على المرآة، وكتب مثلها على الحوائط، مفعول الكلمات وسحرها يمكث نصف ساعة على الحائط، ثم استعد للحفلة، وأحدث جلبة في بَهْو المنزل ثم ارتدى معطفه الأسود، ووضع فوق رأسه جمجمة بشرية مخيفة.
المصباح
خرج المدير من حجرته على الصوت في الظلام، فانكفأ على وجهه، لمح خيالا يمر أمامه بسرعة، فتسمر في مكانه، مع سماع الأصوات المرعبة الصادرة من السماعات الموجودة داخل الشّقَّة، أصبح الجو كله مرعبا مع إضاءة إعلان باللون الأزرق خارج المنزل، أضفى على الأجواء مزيدًا من الرعب، أسرع من مكانه يتحسس الحائط لإضاءة الأنوار.
أضاء المصباح، ثم انطفأت الأنوار مرة أخرى، واستمرت محاولاته بيده المرتعشة وأنفاسه المتقطعة، حتى أشعل شمعة، وتسمر في مكانه عندما وجد الطلاسم على الحائط في كل مكان باللون الأحمر والأزرق.
فجأة
ظهر أمامه فجأة بالمعطف الأسود، يضع على وجهه قناع جمجمة مشقوقة الرأس، وأصدر صوتا مخيفا، خفق قلبه بشدة ولم تقوَ قدماه على التحرك من مكانه، وسقط على الأرض.
بعد أيام كان يقف أمام باب المصنع؛ المصنع الذي لم يترك الذَّهاب إليه كل يوم، على الرغْم من أنه لم يعد له مكان به، حيث تركه منذ مدّة كبيرة، لكنه الحنين إلى عمله القديم، وارتباطه به حد الجنون، يطالع إعلانا قد لصقه أحد العمال على باب المصنع، ولأنه يتابع أحوال المصنع، وقف تجاه الإعلان وكله شغف لمعرفة أي خبر جديد!
وفاة
كان الإعلان نعيا للمدير وتفاصيل العزاء دون الخوض في تفاصيل الوفاة.
عندما ربتت على كتفه يد غليظة، التفت من فوره منزعجًا، ناظرا في عين من خلفه، وجد رجلا ذا هيئة وقورة، ممشوق القوام، عليه هيبة هو يعرفها جيدا، وسأله في لغة صارمة:
– أأنت صادق عبد الصبور؟
أجابه وهو يعرف معنى السؤال:
= نعم، أنا هو
– هل تعرف لماذا أتيت إليك؟
= نعم، أعرف
– إذًا.. تفضل معي.
المعطف
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا