أم وفتيات ثلاث
بقلم: نشوة أحمد علي
كأيِّ أُمٍّ..
كنتُ في شدة الحرص على تحقيق ذاتي من خلال بناتي، وأن أعلمهن كل ما لم يمنحني القدر فرصة تعلمه، وما أكثر ما تمنيتُ، وما أكثر ما حُرِمت بلوغه! لأسباب تتعلق بالمجتمع والتقاليد وقتئذ، وربما غير ذلك..
سعيتُ للاشتراك في أحد النوادي، بغية إلحاق بناتي برياضات مختلفة، فأكرمني الله ووفقني إلى رياضتين مفضلتين؛ التايكوندو، والسباحة..
ممارسة الرياضة بالنسبة لبناتي والالتزام بنشاط ما، هو أمنية بعيدة المنال، نظرا لكثرة الترحال، فقد كنا آنذاك بإحدى المناطق بالمملكة العربية السعودية، التي لا توفر مثل هذه النشاطات إلا للصبية، لذا.. لم يكن أمامي إلا أن أحقق رغبتي في فترة الإجازة الصيفية، عند العودة إلى وطني، لكن أنَّى لشهور لا تتجاوز الثلاثة أن تصنع من الفتاة سبَّاحة، أو بطلة للتايكوندو؟!
لم أيأس على كل حال، وهُنَّ كعادتهن يشجعنني في قراري:
– استمري، أمَّاه، عليكِ السلام..
هُديتُ إلى أننا نجدد العهد بالاشتراك في الرياضتين كل عام، ونستأنف ما قطعنا، ولم أتوانَ عن البحث في منطقتي بالسعودية حيث نقطن، وكذا المناطق المجاورة، لكن لا مجال..
كانت الإجازة بالنسبة لي ولبناتي تشبه مدة الجيش؛ أطمح في أن تمتلك كلٌّ منهن يدا يمكنها البطش بمن يحاول إيذاءها، أو قدما تذود بها ضد المعتدي عن نفسها.. أطمح في أن تكون قوية؛ لا يستهان بها.
في العام الأول حققن إنجازا جعل كابتن التايكوندو يشيد بهن، لأن تفوقن على زملائهن الذين سبقوهن، كما لم يترك مدرب السباحة مرة إلا وأبدى انبهاره بـ رهف؛ صغرى بناتي، التي كانت تبدو وكأنها على دراية مسبقة بالعوم..
انتهت الإجازة، وارتحلنا إلى بلاد الغربة كديدننا، وانتقل الجهاد من ساحة النادي، إلا ساحة المدرسة.
قَدَر بناتي دائما الجهاد، وما كانت حياتهن باليسيرة السهلة يوما.. لا شك أنه إرثهن من أُمِّهن، حماهن الله وحفظهن..
عدنا إلى القاهرة في العام التالي، ومع التمارين الأولى للسباحة والتايكوندو، لاحظتُ تراجعا محبطا في مستوياتهن، حتى أن “رهف” ملَّت الإخفاق، وأبدت بغضا لتلك الرياضة، التي كانت بالأمس هي الأقرب إلى نفسها، وأجمل أوقاتها تقضيها أثناء ممارستها.
حزنتُ، ولاح الحزن في صوتي وسلوكي، ورأينه..
رأين حزني، وخيبة أملي، وسمعن ما لم أنطقه، ولكن لهج به قلبي، سمعن دعائي بأن يا رب، أنت تعلم مقصدي، فقوِّني، ووفقهن..
حتى جاء يوم..
حزمت حقيبتين كبيرتين؛ هما رفيقتاي إلى النادي دائما؛ حيث ملابس وأدوات الرياضتين الخاصة بثلاثتهن..
اتجهنا على بركة الله إلى حمام السباحة، حيث التمرين الأول؛ تجهزن والتحقت كل منهن بفريقها، وجلستُ أتابعهن، ولا تفارقني ابتسامة تحفيزهن، ابتسامة تقول “ها قد أوشكتِ على إنجازها”، تتبعها أخرى بلا صوت: “تستطيعين، يمكنُكِ فعلها”
وبينما أنا كذلك، تتنقل مقلتاي بينهن، حتى فاجأتني “رهف” بتحقيقها. أدَّت حركات المستوى كاملة بسلاسة ونجاح. كانت ترسل إلي نظرة اعتذار:
– أحاول يا أمي، من أجلك أحاول، أحاول من أجل ألا تحزني..
اندفعتُ ناهضة من مكاني، وأنا أضرب الطاولة بيدي غير منتبهة:
– فعلتِها.. لقد فعلتِها يا رهف.
لم يكن اختبارا، وإنما فهمتُ من ابنتي ونظرتها تلك بأنه كان وعدا ضمنيا قطعته على نفسها، لتمسح عني الألم، وتحقق رجائي..
وفوجئت بهن يكررن نفس النجاح بعد ذلك بثلاث ساعات؛ في تمرين التايكوندو
فوجئت بعودة إطراء الكابتن على أدائهن، بل وتوبيخ باقي الفريق لأن: كيف لحديثات السن، قليلات التدرب، كثيرات التغيُّب أن يتفوقن عليكم؟!
هن بناتي، وكلي عزة وفخر..
لمحتُ أعينهن الملتمعة بدمع الفرح، لما وجدنني أبتسم، أضحك، حتى كدن يميزن صوت ضحكاتي من بين الجموع، وأنا التي بالكاد يُسمِع صوتي آذاني..
أي بُنيَّة..
بحق هذا الوعد الذي ما أخلفتِه، ومن أجل تلك النظرة، التي ما نسيتُها، لن أسامح من آذاكِ، ولن أعفو عمَّن آذاني فيكِ..
انتهى التمرين في تمام الحادية عشرة والنصف مساء، وكنا وحيدات، ولا سبيل للرجوع إلا بالمواصلات العامة، ولا بديل عندي عن مكافئتك..
متهورة أنا على كل حال؛ تحدوني مشاعري إلى ارتكاب حماقات؛ لو تمهَّلتُ حينها قليلا، ربما.. ربما…..
لا.. كنتُ سأفعلها حتما، فلستُ أراني حمقاء إذ قررتُ مكافأتك. تحبين البيتزا التي يقدمها ذاك المطعم.. فهيا إذًا..
– تأخر الوقت، يا أمي!
— لا تقلقي بنيتي، ادعي معي أن نلحق به قبل موعد غلقه.
– الحقائب ثقيلة عليكِ، يا أمي!
— لا عليكِ، فقط.. أمسكي بيدي ولا تفلتيها.
أُمٌّ وفتيات ثلاث، يرتدين ملابس التايكوندو، يتناولن أشهى شطائر البيتزا، في مطعمهن المفضل.
نظرتك بنيتي، تقويني، تلهمني، تخلق مني سيدة من عزيمة وإصرار وتنفيذ.
نظرتك بنيتي، تحرمني رفاهية المفاضلة ما بين إسعادك الآن، أو تأجيله لسويعات.
نظرتك بنيتي، صنعتني، وما زالت، فـ كوني دائما بخير.
لقراءة المزيد من المقالات مجلة ريمونارف
لمتابعة كل ما هو جديد من هنا
أم وفتيات ثلاث أم وفتيات ثلاث أم وفتيات ثلاث أم وفتيات ثلاث أم وفتيات ثلاث أم وفتيات ثلاث
ابكيتني وآنا اقرآها .. ما هذا الابداع والعذوبة